لو كانت ثمّة قيادة رسمية فلسطينية، غير القيادة الحالية التي يرأسها ويقودها محمود عباس، لقامت انتفاضة شعبية شاملة في القدس والضفة الغربية منذ خمس سنوات على الأقلّ، ولكانت القدس والضفة محرّرتَين من الاحتلال والاستيطان. هذا الرأي لا يُقال تجنّياً، فمحمود عباس حدّد استراتيجية تعتمد منهج «اتفاق أوسلو» الذي كان عرّابه، وما زال مصرّاً عليه، على الرغم من فشله الفاضح، وعلى الرغم ممّا تلقّاه ويتلقّاه «أبو مازن» من إهانات على المستوى الشخصي. والأنكى، أن رئيس السلطة ما زال مصرّاً على «التنسيق الأمني» الذي يحمي الاحتلال والاستيطان، وعلى مناهضة الانتفاضة الشاملة حتى الآن. فأول أمس، كان يُفترض بأن تحشد رام الله مسيرة كبيرة تضامناً مع المسجد الأقصى وأهالي الشيخ جرّاح، وتذهب إلى حاجز قلندية، وإذا بها تدخل باباً دوّاراً، ليبقى التحرّك رمزياً وذرّاً للرماد في العيون.
لو كانت ثمة قيادة رسمية غير هذه القيادة، ومهما بلغت من الضعف والمهانة وقصر النظر، لما استطاعت إلّا أن تنضمّ إلى الانتفاضة الراهنة، ولا تضع العصيّ في دواليبها. حقّاً، يحار العقل كيف يصف القيادة الحالية وعنادها في مواصلة «التنسيق الأمني»، والحيلولة دون الوصول إلى انتفاضة شعبية شاملة. باختصار، محمود عباس، ومعه بعض القادة العرب من المهرولين إلى التطبيع، ما زالوا يعيشون، أولاً، في مرحلة التفوّق الصهيوني العسكري في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات. وثانياً، ما زالوا يعيشون مقولة أنور السادات بأن 99% من الأوراق بيد أميركا. ففُتح بها باب الهاوية لمصر، والنظام العربي ككلّ (طبعاً تَبعه مَن تَبعه في تدمير الوضع العربي، بالرغم ممّا كان يسوده من نقاط ضعف). أمّا ثالثاً، فهم صُمٌّ عميٌ بكمٌ في قراءة ما أخذ يغيّر في معادلة موازين القوى أولاً وثانياً، أعلاه. فهم لا يرون الصواريخ البالستية التي تطلّ برؤوسها إلى تل أبيب من إيران ومن لبنان ومن قطاع غزة (حتى من قطاع غزة المحاصر والمعزول، ولكن البطل والمبدع). أمّا في المقابل، فهم لم يروا أن الجيش الصهيوني لم يَعُد الجيش الذي شنّ الحروب ضدّ ما هو أقلّ من ذلك بكثير: عدوان 1956، وحرب 1967 على مصر وسوريا والأردن، أو حرب 1982 على «منظّمة التحرير الفلسطينية» وسوريا ولبنان.
إنهم لا يرونه منسحباً ذليلاً من لبنان في عام 2000، ومن قطاع غزة في عام 2005، وبلا قيدٍ أو شرط. ولم يروه مهروِلاً في حرب عام 2006 في لبنان، أو حروب 2008/2009، 2012، و2014 في قطاع غزة. بل لم يروه مهزوماً أمام البوابات الإلكترونية، وباب الرحمة، في انتفاضتَين مقدسيّتَين سريعتين، أو أمام إضراب الأسرى، أو الخان الأحمر، والعراقيب. ولم يروه مهزوماً أمام انتفاضة الشباب والشابات عام 2015 (انتفاضة السكاكين والدهس)، التي لولا تدخُّل «التنسيق الأمني» لما استطاع أن يُضعف زخمها. فقد كانت واعدة بأكثر ممّا حصل بكثير. بل لا يرون، حتى الآن، ما حدث من مواجهات في ساحة باب العمود، وفي داخل المسجد الأقصى، وفي الشيخ جرّاح، وفي عدد من شوارع القدس. فهم لا يريدون أن يروا انتفاضة القدس، وهي تتحوّل إلى انتفاضة شعبية على مستوى الضفة الغربية، وإلى كتلة من النار في قطاع غزة، وإلى حراك شعبي جبّار إلى المسجد الأقصى، من قِبَل فلسطينيّي الـ1948، فضلاً عن فلسطينيّي الخارج، ومعهم الشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم.
إنهم لا يريدون أن يروا حماة الكيان الصهيوني التقليديين، ابتداءً من أميركا ومروراً بأوروبا، يدعون إلى التهدئة وضبط النفس، ويحذّرون من أن ما يُقدم عليه الكيان الصهيوني غير شرعي وله نتائج خطيرة.
ولا يريدون أن يروا فضيحة الدول المطبّعة، وهي تبتلع ريقها، ولا تعرف ما تقول وتفعل. ولا يريدون أن يروا الوضع العربي مضطراً إلى الانقياد وراء الإرادة الفلسطينية إذا ما وحّدت صفوفها خلف الانتفاضة الحالية، وذهبت بها إلى العصيان المدني الطويل الأمد، فلا ينفكّ إلّا بدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من الضفة والقدس بلا قيدٍ أو شرط، كخطوة ممكنة التحقيق على طريق الإعداد للتحرير الكامل من النهر إلى البحر، وعودة كلّ اللاجئين. فما ينبغي البحث عن حلّ للقضية الفلسطينية في فرْض الانسحاب من القدس والضفة فقط، لأن القضية الفلسطينية لا حلّ لها إلّا بالتحرير الكامل ورحيل الكيان الصهيوني. وهذا ما تفرضه طبيعة هذا الكيان الذي شنّ على الشعب الفلسطيني وقضية فلسطين حرب وجود: حرب اقتلاع الشعب من وطنه والحلول الكامل مكانه. والمدهش أن قادة (إسرائيل) في المراحل الأولى، بالرغم من تفوّقهم، حاولوا القضم «لقمة» بعد «لقمة»، تحت شعار مضلّل «الدعوة إلى المفاوضات والبحث عن حلّ». ولكنهم اليوم، وهم ينحدرون في ميزان القوى، وباشتداد ساعد المتديّنين الأكثر تطرّفاً (شكلاً)، راحوا يعلنونها حرب وجود كاملة، كما عبّر عن ذلك مثلاً «قانون الدولة القومية اليهودية».
بناءً عليه، يُفترض بكلّ فلسطيني وعربي ومسلم وحرّ في العالم أن يردّ على هذه الحرب الوجودية: «فلسطين لمن؟»، وأن يتوقّف كلّ وهم في البحث عن حلّ الدولتين التصفوي، أو حلّ الدولة الواحدة المتعايشة بمساواة وهمية، أمام طبيعة مستوطن عنصري يفضّل الرحيل على التساوي مع فلسطيني عربي (مسلم أو مسيحي) في فلسطين واحدة محرّرة.