فلسطين أون لاين

همسة إليكِ (1-2)

...
بقلم: الأسير سعيد ذياب

عن الحب الحديث، هكذا دون مقدمات، وبلا تمهيد، معتاد أن الذي دفعني للكتابة عنه سببان :

الأول: أن الحب وتجلياته الوردية وندى قصصه المتناثرة تتحرش بخيالات كل فتاة، وتراودها أحلامها بالتفتيش عن فارسها المنتظر، كي تحملها أجنحةُ قلبهِ وتطير بها إلى سحائب الوداد وفضاءات السعادة والحلم، خاصة في بداية تَشكُّل أنوثتها وتفتُّحِها على ربيع العمر المرحب بكينونتها الفتية.

أما الثاني فيتقاطع نسبياً مع الأول، وهو عدم القدرة على تثبيت مسافة نفسية بين الجنسين، في رحلة استكشاف الآخر، وبسبب الانفتاح الكبير الذي أحدثته أدوات العصر، ما أدى بكثير من التجارب لكوارث وخيبات راكمها الاندفاع وراء تقليد خطى الدراما المبتذلة، وما تركته من تشويهٍ في المفاهيم وتجريد للمبادئ والمُثل.

وهذا ليس رجماً بالغيب بل مجمل القصص الظاهرة يُعطي هذا الانطباع عدا عن الخفي المستور وما بقي حديث الصدور الموجوعة.

قد تكون هذه الهمسة إليكِ (بكسر الكاف) لكنها تصح أيضاً أن تكون همسةً إليكَ (بفتح الكاف)..

فحديث الحُب يخُص كل فتاة وشاب، ولا بُد أن يكون أخذ من خيالاتهم ودفق مشاعرهم في أثناء العبور من مرحلة الطفولة لمرحلة النضج واليفاع.

لقد خُلق بنو آدم بغريزة الانجذاب للجنس الآخر وهي لازمة من لوازم التناسل وعمارة الأرض، وقد جاءت رسالة السماء لا لتكبت فطرة الإنسان أو تحاصرها، بل لتصونها من العبث وتحفظها من الانحدار ولتسمو بها عن الاستسلام لدون البهيمية وجموح الغرائز الشاردة وترقى بها لآفاق الطهر وكرامة مرتبة الاستخلاف التي اختص الله بها بني آدم عن سائر المخلوقات فكان الزواج رابطاً مقدساً بشروطه وأركانه، التي حفظت للإنسان أشواق الأرض وجللتها بأنوار السماء.

لقد خلقنا بنزعة البحث عن الشريك، والتوقِ إلى شاطئ تنتهي إليه رحلة إبحارنا فنرمي إليه مراسينا ونرخي في أحضانه العمر مزداناً بمدٍ من الأماني وفيض من الأمان، إلى الشطر الذي يجتمع لنا في إطاره بقايا قطعنا الفسيفسائية، إلى النبع الذي يصب خيره فينا، فتزهر له سوسنات القلب وتخضر به دوحة الروح بشمائل الرقة والحُسن وجمال الود وطيب المعشر، إلى الأغنية التي تنظمها قافية الروح واللحن المعزوف على أوتار القلب والفرحة التي تتهلل بها أسارير الحياة، إلى الحب الذي يلُم شتات النفس من نثر الشقاء إلى هناء الوصل بدفء الحب ولمس العيون .

لقد جاءت بلاغة القرءان تعبر عن ذلك بأجمل تعبير وأرقى دلالة لغوية فقال تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً".

فما أجمله من وصف وما أكمله من معنى، حين يرد النفوس للنفوس، وكل زوج إلى زوجه التي تكمله لينطلقا معاً في الدرب ذاتها، روح واحدة التقت في عالم الغيب، وانبعثت جسدين مختلفين في عالم الشهادة.

ففي التقاء أشواقهما جاءت مشيئة الخالق باستمرار الخلق وعمارة الحياة؛ فلا هدأة ولا ارتواء إلا بحدود هذا السكن بمعناه المادي والمعنوي، فبين جنباته الحماية والأمان، ومنه تنبعث براءة براعمنا الناشئة، وفيه سكينة النفس وسعادة الوجدان التي تظللُنا بصفاء المودة والحب وعرائش الرحمة والعطف.

وبعدُ يا زينةَ الدنيا ..

أرى طيف أحلامُكِ الممتدة على اتساع هذا الكون لوردية ألوانها في تأَنُثٍ ودلال، وأدري بخفق القلب الباحث عن كف تهدهده وتمسح ما علق عليه من نكد الحياة وغبار مواقف الانتظار.

ولا أدَّعي فتحًا إن قلت أني أكاد أشعر بوقع هواجزكِ المكتومة وحرارة الدمع المكابر في متاهة التوحد مع الذات الأملة خلاصًا وارتياحًا، ولربما ألجئتكِ سياط الوِحدة وما أغراكِ جمال بعض النهايات إلى الإسراع لأي التجاء أو الارتماء في أي ركن دون وعي منكِ أو إدراك، وقد تدفعكِ المغامرة إلى القفز عن حواجز العادات وتجاوز دائرة القيم بكسر عذرية القلب والعيش بتجربة الحب والانتشاء بلذة الشعور والتمتع بغمرة الإحساس الذي يُهَدئ لهيب العواطف ويُسكب أجيج الوجدان.

وهنا وقفةٌ جادة للقول:

لا أحد ينكر الظمأ العاطفي الذي نحياه في عصر سُعار الانكشاف على كل الأصعدة، ويا للأسف! لن يؤدي إلا إلى مزيد من التشتت النفسي واضمحلال في العلاقات الإنسانية والتشكل في حيوات افتراضية وممارسة قناعات تخالف أحيانًا مسلكيات الواقع إما هروبًا أو تضليلًا، فمن ليس مرتبطًا داعبت خيالاته مشاهد المجد وعذوبة حكايا العشاق التي تستدرجه كمائنها للإقدام وتستحفه تجلياتها لعيشها بأي ثمن وإن تجاوز حدود الأعراف وتماهى مع تقليعات الانفتاح والحداثة، ومن كان مرتبطًا فله مع هذا الانكشاف العام أن يعقد مقارنات -وربما تكون محقة- بين شريكه في الحياة ومثالية إسقاطاته على بعض التجارب والمشاهدات التي قد تكون تصديرًا دراميًّا فقط، فتدفعه نقائص الشريك للثورة عليها والقصاص منها ولو بالاجتراء على قدسية الارتباط، أملًا في التعويض المعنوي الذي قد يستتبع تفكك عذوبته الأسرية وغياب قيم الصدق والوفاء والصبر لمصلحة الانحدار في دركات الخطايا .

إن الشعور بالحب هو دليل على عافية الفطرة وسلامة الإحساس، لا ينفيه إلا جاهل ولا يتنكبه إلا متغابٍ أو بليد.

ولقد أقر الدين الحب واحدًا من التجليات الإنسانية غير أنه قيده بضوابط تحفظه من الملل وتمنعه من السير وراء الهوى، فكان الزواج جنة المتحابين وروضة العاشقين، قال (صلى الله عليه وسلم): "لم أرَ للمتحابين غير النكاح"، ولقد أورد القرآن الكريم مآل الحب الذي تعميه الشهوة وتقوده نداءات الجسد فقط، في قصة نبي الله يوسف مع امرأة العزيز التي "قد شغفها حبًّا"، فقامت فكان أن غلقت الأبواب وقالت: "هيت لك"، فعصمه الله عن الفاحشة و"لبث في السجن بضع سنين" إلى أن ظهرت براءته وأقرت بطهارته رغم نقاء حبها له: "ذلك ليعلم أني أخنه بالغيب"، وذهبت شهادتها للمتحابين إقرارًا وتحذيرًا: "وما أُبرئ نفسي إن النفسَ لأمارةٌ بالسوء".