في أثناء التفكير بالكتابة عن مستقبل الانتخابات الفلسطينية، واحتمال التأجيل من عدمه، برزت أحداث مدينة القدس كعنوان أوحد في ليالي رمضان، لا سيّما مع خروج الشباب المقدسي خروجًا غير متوقّع لمواجهة جنود الاحتلال وعصابات المستوطنين المتطرفين أتباع الفكر الكهاني الساعين لتدنيس أقدس بقاع الأرض باقتحام باحات الأقصى المبارك في الـ 28 من شهر رمضان لإقامة شعائرهم التلمودية وسط التهديد بالموت للعرب تحت سمع الاحتلال وحماية مؤسسته العسكرية والأمنية، فكانت شوارع القدس وباب العمود وبوابات الأقصى ساحات للتحدي لخيّالة الاحتلال وجنوده، وسياراته التي ترش قذارتها في شوارع القدس، وسط ضجيج القنابل الصوتية التي يطلقها مئات الجنود المدججين بأسلحتهم النارية في مواجهة الشباب المسلّح بحبه للقدس وإيمانه بالمسجد الأقصى بوابة السماء مع الأرض المخضبة بدماء الشهداء.
هذا المشهد أحرجنا جميعًا ونحن نناقش جدوى ومستقبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية تحت الاحتلال، التي نريد لها أن تمنحنا القوّة والفرصة لالتقاط شعثنا المبعثر بين الضفة والقطاع، بين حماس وفتح، بين اليمين واليسار، بين الوحدة والانقسام، بين المقاومة والتسوية، بين التطبيع ورفض الاعتراف بالاحتلال، بين عروبة القضية وإسلاميتها، بين محليتها وعالميتها.
هذا المشهد أحرجنا بكشف عيوبنا، بكشف بؤسنا ويأسنا، بكشف الغشاوة التي على بصيرتنا. فبينما نحن نطالب الاحتلال بعجزنا ليسمح لنا بوضع صناديق انتخاباتنا في مقارّ بريده خلف أسوارنا العتيقة، وبينما نحن نصرف وقتنا وجهدنا ومالنا وتفكيرنا في كيفية تدوير السلطة بيننا، السلطة التي لا تملك من أمرها إلا التنسيق الأمني مع الاحتلال وحماية المستوطنين، السلطة التي تعيش على موائد المنح والمساعدات القادمة من أعدائنا؛ كان لأهل القدس وعشّاقها الكلمة الفصل، "القدس تنتفض". وكأننا بالقدس تقول لنا، لا لن ننتظركم ولن ننتظر عطفكم الانتخابي، ولن ننتظر الرهان على عطف الاحتلال ليسمح لنا بحقنا في القدس وبحقنا في تقرير المصير. وكأننا بالقدس تقول لنا ما لكم كيف تحكمون، كيف تنتظرون وتستجدون حقوقكم من الصهاينة المحتلين، وكيف ستحمون عروبة القدس وإسلامية المسجد الأقصى من يهودٍ صهاينة، وكيف ستحمون حرائر القدس المهددات بالموت والقتل، وكيف ستحمون الأسوار العتيقة، وبيوت التاريخ، وقبور الشهداء والصحابة؟
كأننا بالقدس تقول لنا، لا لن ننتظركم ولن ننتظر انتخاباتكم، فالقدس عنوان للبطولة والفداء، وليست عنواناً للشِحاذة والاستجداء. القدس ستسير بقدرها وسترفع لواءها، فإن كان لكم سهم فالحقوا بنا.
ولعل حناجر الشباب في باحات المسجد الأقصى أوصلت لمسامعنا رأيها بقولها: "حط السيف قبال السيف واحنا رجال محمد ضيف، بالروح بالدم نفديك يا أقصى، أحمد ياسين، يحيى عيّاش، مصحف، سيف، لواء، دماء..." هي مفردات عبّرت بها الجماهير عن إيمانها بأولوياتها، وحددت بها موقفها مما يجري داخل فلسطين، وعن الأسلوب الأمثل لحماية الحقوق الوطنية في ظل الاستعداد للانتخابات التشريعية والرئاسية تحت الاحتلال.
في هذا السياق، وبغير تدبير منّا، برزت فرصة ساقها القدر على أيدي شباب القدس، فرصة للتوقف وإعادة النظر والاستدراك على ما نحن عليه بتعديل بوصلتنا الوطنية بإعادة رسم أولوياتنا والتي يقع في مقدمتها تعميق وتوسيع بقعة الصراع والمواجهة الجماهيرية المدنية مع الاحتلال انطلاقاً من القدس. وهذا مسار لا زالت مقدماته ماثلة ومستمرة، فالاحتلال ومستوطنيه لديهم خطط ومشاريع تهويدية متعددة تصل للاعتداء على المسجد الأقصى، ناهيك عن مصادرة البيوت وطرد ساكنيها، إضافة إلى الاعتداء المستمر على الفلسطينيين وحقهم في الاحتفال بشهر رمضان والوصول إلى أماكن العبادة، إلى حد مطالبة المصلين بالحصول على تصاريح للصلاة في سابقة خطيرة ومهددة لواقع ومستقبل المسجد الأقصى المبارك.
كل ذلك يجري في شهر رمضان المبارك المفعم بقيم الصبر والعطاء والحرية والانتصارات التاريخية، وهو الكفيل بتحريك وجدان وقلوب العرب والمسلمين نحو فلسطين، ما يشكل فرصة لاستعادة زمام المبادرة أمام كيان يعاني من انقسامات سياسية حزبية داخلية حادّة تجسّدت في أربعة انتخابات برلمانية خلال سنتين، وتهم بالفساد لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتانياهو.
القدس تنتفض، فرصة لو أحسن الفلسطينيون استثمارها لكفتهم عنواناً للوحدة من بعد انقسام، ولكفتهم لمواجهة التطبيع البغيض مع الاحتلال، ولكفتهم لاستعادة حضور القضية الفلسطينية في وجدان الأمة العربية والإسلامية.. فهل يغتنمها الفلسطينيون منحة ساقها القدر؟