تتألق القدس في ليالي رمضان، وتعيد رسم لوحتها العربية والإسلامية في شوارعها وأزقتها ومساجدها وكنائسها، وما بين صلاة التراويح ومواجهة المحتل تزيد لوحتها جمالا وإشراقا، ويفشل غبار التهويد المستمر في التصاعد منذ سبعين عاماً في حجب روعة ألوانها العربية والإسلامية.
في باب العمود يهتف شباب القدس باسم قائد المقاومة ويطاردون الدخلاء في الشوارع ويتصدون لقوة الاحتلال الهمجية بأصواتهم وسواعدهم وحجارتهم، فيزداد إشراق المدينة بهاءً رغم الليل الذي يعبق في أجوائه عطر رمضان، وصلاة التراويح في المسجد الأقصى تضيف لمسة إيمانية على وجه المدينة الثائرة، فيتشكل المزيج الثوري الرمضاني في أبهى الحلل.
القدس دائما تتقدم وتصد العدوان كما فعلت دائماً منذ ثورة البراق ومروراً بثورة القسام والانتفاضة الأولى وهبة النفق والتصدي لشارون وانطلاق الانتفاضة الثانية ومعركة البوابات، وها هي اليوم تتصدى للعدو في معركة باب العمود.
القدس بدأت المعركة، وتنتظر نابلس وبيت لحم والخليل وغزة وخانيونس ورفح، وكذلك حيفا ويافا والناصرة، القدس تنتظر كل فلسطين لترسم لوحة فلسطين كاملة من بحرها إلى نهرها بلون العروبة والإسلام، وتعيد لها سيرتها الأولى التي لن ينساها التاريخ ولن تغيب عن الجغرافيا مهما كثفوا من ضباب التهويد وغبار الاستيطان، فشمس فلسطين تشرق لتبدد كل ما يحجب جمالها وبهاءها.
القدس تفخر اليوم بأبنائها وهم يطاردون مسوخ الاستيطان في شوارعها، وكأن القدس تستعيد ذاكرتها المغيبة منذ 1948م، وتقول بلسان تميم لأبنائها: في القدس من في القدس لكن لا أرى في القدس إلا أنت.
أجل كل مَنْ القدس أصغر وأحقر وأهون من الفلسطيني، والقدس لا تعترف إلا به ابناً باراً عزيزاً، يفديها ويحميها، ويُقتل في سبيلها، ويُدفن في ترابها المقدس، ويوصي أبناءه وأحفاده بالدفاع عنها والحفاظ على مقدساتها، ويبقى هذا العهد حياً في أبناء المدينة ينتقل من جيل إلى جيل.
لم يكن أحد يتصور في غمرة الحديث عن منع الاحتلال للانتخابات في القدس، وكيفية مجابهة هذا القرار فلسطينيا، والجدل الدائر بشأن التأجيل أو المضي قدماً في الانتخابات، أن تقطع القدس قول الخطباء بقولها الفصل، وتعلن أنها ستدافع عن عروبتها بنفسها، وستؤكد فلسطينيتها بسواعد شبابها، وقد صدقت القدس، وحولت شوارعها لساحة اشتباك مع المحتل، فأرسلت إشارة واضحة التقطتها كل عواصم العالم، بأن القدس عربية، والمساس بعروبتها خط أحمر كما جاء التصريح على لسان وزير الخارجية الأردني كرجع صدى لموقف شباب القدس الثائر.
الفعل المقاوم على الأرض حرك قنوات العمل الدبلوماسي التي نشطت من بعد خمول وجمود، لتتدارك الموقف في المدينة المقدسة قبل أن تشتعل المنطقة، وللقدس ما للقدس من مكانة في نفوس أبناء الأمة. تحرك القدس اليوم لا يجب أن يجير من أجل صندوق الانتخابات كما قد يتصور البعض، فالقدس تصنع اليوم حدثاً أكبر من قضية الانتخابات، القدس اليوم تشعل شرارة ثورة يجب أن تسري في كل فلسطين إيذانا بالتحرير الذي آن أوانه وحل زمانه، ولتتكاتف قوى الشعب الفلسطيني وتتحد خلف هذا الهدف، بعد أن وحدت القدس الرؤية، ونزعت فتيل الخلاف، ومهدت الأرض للسير في طريق الوحدة الوطنية التي رسمها شباب القدس الثائر.
فيا أيها الشعب الفلسطيني، ويا أيتها الفصائل الفلسطينية، لا تطفئوا جذوة الثورة المقدسية بخلافات ليست لها في ميزان التاريخ قيمة، ولا تجعلوا من خلافاتكم سبباً في خفوت هبة القدس، ولا تعيدوا سيرة التاريخ القريب من خذلان للثوار في شكل خذلان آخر، فالقدس سئمت الخذلان، وتنتظر من يسند ظهرها ويعزز صمودها.
في أواخر آذار من عام 1948م كان اللقاء الأخير لعبد القادر الحسيني مع القادة العرب أملا في جلب السلاح لدعم الثوار، وعندما فشل خاطبهم قائلا: "إنني ذاهب إلى القسطل، وسأقتحمها، وسأحتلها، ولو أدى ذلك إلى موتي، والله لقد سئمت الحياة وأصبح الموت أحب إلى نفسي من هذه المعاملة التي تعاملنا بها الجامعة، إنني أصبحت أتمنى الموت قبل أن أرى اليهود يحتلون فلسطين، إن رجال الجامعة والقيادة يخونون فلسطين" وفعلاً عاد عبد القادر الحسيني إلى فلسطين واستشهد في القسطل.
نحن الآن في عام 2021م وفي شهر نيسان وهذه المرة شباب القدس لا ينظرون للعرب بقدر ما ينظرون لأبناء فلسطين، فلن نعيد كرة التاريخ بخذلانهم، وليكن موقفنا جميعا: إذا خذل العرب جهاد عبد القادر الحسيني في 1948، ويسعى في خذلانها اليوم بعض عواصم التطبيع العربية، فإن أبناء فلسطين اليوم يقولون بصوت واحد للقدس: لبيكِ يا قدس.