من غير الصحيح أن تم التشديد على أن الوضع الفلسطيني في أزمة أو مأزق في الوقت الذي يعاني فيه العدو الصهيوني أزمة ومأزقًا، لم يسبق لهما من مثيل، وذلك منذ وعد بلفور 1917 حتى وقت قريب، لنقل حتى نهاية القرن العشرين، مع أقل أو أكثر ببضع سنين.
ثمة منهجان في تقدير الموقف: منهج يبدأ بتحليل الأوضاع الفلسطينية والعربية ليعتبر أننا في أزمة ومأزق، وأن العدو في أحسن حال. أما المنهج الثاني فيبدأ بتحليل الأوضاع الداخلية في الكيان الصهيوني (عسكريًا وسياسيًا واجتماعيًا) ثم امتداده أمريكيًا وأوروبيًا (إن لم يبدأ بهذا الامتداد أولًا)، ليحدد ما حلّ بهذين البُعدين من ضعف وأزمات وتراجع، قياسًا بما كانا عليه في الماضي، ولا سيما من قدرة على حسم كل صراع بالحرب المباشرة، كما حدث في 1948 في فلسطين، وفي 1967 مع مصر وسوريا، و1982 مع المقاومة، و2002 مع مناطق (أ) في الضفة، و2003 مع العراق.
المنهج الأول يأخذك بالضرورة إلى التشاؤم والتحدث عما يعانيه الوضع الفلسطيني من أزمة ومأزق. ويكفي لتذهب إلى التشاؤم أن تعدّد ما فعله اتفاق أوسلو، وما تمارسه سلطة أوسلو من تنسيق أمني، وما يصر عليه محمود عباس من سياسة متهالكة على استراتيجية التسوية والمفاوضات، والممعنة في مطاردة المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، والمناهضة للمقاومة الشعبية والانتفاضة. وإذا شئت أن "تزيد القصيدة" بيتًا من الشعر، فأضف ما يجري عباس من التوافق بين الفصائل (عدا الجهاد) من إضاعة وقت أملًا بانتخابات، فيما مقاومة الاحتلال مؤجلة. وإذا شئت أن تضيف بيتًا آخر، فانظر إلى وهم إعادة بناء م.ت.ف التي انتهت بمأساة اتفاق أوسلو، واجتماع المجلس الوطني 1998 الذي أعلن تعديل الميثاق. وقد بدأ هجره منذ انعقاد المجلس الوطني 1974 (تبني برنامج النقاط العشر).
من هنا ندرك الأهمية المنهجية في تقدير الموقف، وذلك من خلال الآية الكريمة: "وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا" (النساء: 104).
نزلت هذه الآية عندما كان ميزان القوى قد أخذ يميل في مصلحة المسلمين، وأصبحوا يتأهبون لابتغاء القوم ومنازلتهم. فمن جهة، فيها رد على من أخذوا يترددون، أو يهنون بابتغاء القوم، كما يحدث مع الفلسطينيين الآن حيث كثر المترددون في ابتغاء الاحتلال، فراح بعضهم يبحثون عن لفتة من جو بايدن، والبعض راح يعلق آمالًا على انتخابات يشوبها اللبس تأجيلًا أو تعطيلًا أو تزويرًا، أو انفجارًا لصراعات، فيما الاستيطان يستشري في الضفة، وفيما التهويد يستفحل في القدس، وانتهاكات المسجد الأقصى تسابق الزمن لتقسيم باحته، والاستيلاء على مسجد باب الرحمة فيها.
ثم نأتي إلى "إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ"، وهي التي تدعو أن يُنظَر في حال العدو وما يُواجِه من أزمات ومآزق لا تقل عما يُعانيه الوضع الفلسطيني من أزمات ومآزق، وهذه بالنسبة إلى القوى المسيطرة أشد بلاغة وأهمية؛ لأن الأزمات والمآزق دائمة الوجود في الجماعة الناهضة المغلوب على أمرها. أما الرجاء بالحسنى فهي الميزة الأعلى التي هي من نصيب الفلسطينيين في هذا المقام.
من هنا، فإن تقدير الموقف الصحيح يجب أن يركز على ما يعانيه العدو وحلفاؤه من ألم وأزمة ومآزق وضعف وتراجع. فمن يلحظ ما يواجهه الكيان، مع أربع انتخابات خلال سنتين، من إرباك ومأزق واضطراب، ويحسب ما عاناه الجيش الصهيوني من فشل في ست حالات: الانسحاب بلا قيد أو شرط من جنوبي لبنان أمام المقاومة الإسلامية عام 2000، وكذلك الانسحاب أمام المقاومة والانتفاضة من قطاع غزة 2005، ثم الفشل في حروب 2006 في لبنان، و2008/2009، و2012 و2014 في قطاع غزة، ثم أضف ما أرسي من قواعد اشتباك في الحالين.. وإذا أضيف عجزه (حتى الآن) عن شن الحرب على كل من قطاع غزة، أو جنوبي لبنان، أو إيران لمنع ما يحدث من تطوير هائل للصواريخ البالستية والقدرة العسكرية، فإن ما يعانيه الكيان من ألم أشد عشرات المرات مما نحن فيه من ألم ومآزق.
وهنا يجب أن يضاف ما تواجهه أمريكا وأوروبا من تفوق صيني أخذ يزحزح سيطرتهما العالمية على مدى المائة سنة الماضية، وقبلها أكثر من مائتي سنة، وكذلك عودة روسيا دولة كبرى لتمتد بنفوذها السياسي عالميًا، وتتفوق بسرعة صواريخها وآلتها التكنولوجية العسكرية، الأمر الذي يعني إضعافًا، بالضرورة، للكيان الصهيوني الذي استمد وجوده وقوته، ولم يزل، من سيطرة الغرب على العالم، ودعمه الكامل له، وفي كل المجالات، بما فيها إخراج الدول العربية من ساحة الصراع، إما بالاستتباع وإما بالمحاصرة.
لهذا يمكن القول، وبأعلى درجات الموضوعية والحسابات الباردة لموازين القوى، إن الوضع الفلسطيني ليس في أسوأ أحواله، كما يصوّره البعض الفلسطيني والعربي، ولا سيما مع هجمة التطبيع التي شنها دونالد ترامب، وقد بولغ بأهميتها وهي التي لم تزد على أربع دول، وكذلك الهجمة الأخطر التي تشنها "جماعات المعبد" على المسجد الأقصى، أو المستوطنون في القدس بمصادرة حي الشيخ جراح والخان الأحمر، وهدم البيوت أو الاستيلاء على بيوت في القدس وسلوان وسور باهر، ومناطق أخرى.
إن هذه المظاهر مدعاة للشعور بالخطر وبإضاعة المزيد من الأرض، ولكن الرد عليها لا يكون بالغرق في الانتخابات، كما يريد الرئيس محمود عباس، أو بعض الدول الخارجية والعربية التي همها الوحيد ألاّ تؤدي ارتكابات الاحتلال والاستيطان إلى مقاومة وانتفاضة شعبية. فيريدون تحويل البوصلة الفلسطينية إلى الغرق في الانتخابات أو إلى التعلق بأوهام عودة البحث في حلِّ الدولتين، أو أوهام ما سيخرج من الانتخابات من نتائج ستعيد ترتيب البيت الفلسطيني بإعادة بناء م.ت.ف، وهي أوهام غير قابلة للتحقق من جهة، وإذا افترضنا جدلًا، من جهة أخرى، بأنها ستتحقق فإن كركبة البيت الفلسطيني أفضل مرات من إعادة ترتيبه تحت سقف أوسلو وسياسات التسوية، وحل الدولتين التصفوي.
إذا كان الكيان الصهيوني يألم كما نألم، وهو في أسوأ حالاته، وكذلك حلفاؤه (آباؤه المؤسسون)، وإذا كان الاحتلال والاستيطان يستشريان في ظل هدوء جبهة المواجهة (عدا ما يجري في قطاع غزة من إعداد عسكري)، فإن الأولوية الفلسطينية يجب أن تكون بناء وحدة فلسطينية (جبهة متحدة) تذهب إلى تصعيد المقاومة الشعبية إلى انتفاضة وعصيان مدني، لا يتوقفان حتى دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من الضفة والقدس، بلا قيد أو شرط. وهو ما يدعمه ميلان موازين القوى عالميًا وإقليميًا في غير مصلحة الكيان الصهيوني، فالعالم والوضع العربي لن يحتملا انتفاضة فلسطينية ثالثة حازمة، مصممة، وعنيدة حتى دحر الاحتلال.