من خلف الزجاج العازل تنظر نهى الحسيني (47 عامًا) باتساع عينيها مشدوهة لا تُصدِّق ما تراه، حينما وصلت إلى سجن عسقلان في زيارتها الأولى لوالدها الأسير السبعيني موفق عروق بعد عام من إصابته في السرطان.
تحمل لهفتها وشوقها وصورة والدها قبل مرضه معها، قبل أن تراه بوجه آخر مصفرّ أنزل المرض شعره عن رأسه وحاجبيه، مشهدٌ أذاب صلابتها وأنزل دموعها التي لم تستطِع حبسها ولا إخفاء ما تشعر به لوالدها: "ليش هيك لونك؟" تستحضر صوره قبل المرض وكأنه تحوَّل إلى إنسان آخر، هو الآخر تهاوت دمعاته، لكن لم يتأخر في الإجابة: "والله يا بنتي المرض أخد صحتي وشعري".
الأسير عروق واحد من مئات الأسرى المرضى، اعتُقل عام 2003 وحُكم بالسجن 30 عامًا، أمضى منها سبعة عشر عامًا، لم يشفع له مرضه بالسرطان قبل عامين ولا عمره الذي طرق الرابعة والسبعين للإفراج عنه، فقد تجاهل الاحتلال كل النداءات التي تطالب بإطلاق سراحه من أغلال السجن.
تدخل ابنته نهى أبواب السجن من بوابة الذكريات، من تنهيدات الصبر التي سبقت صوتها قبل أن تحرر تلك الكلمات المقيدة بداخلها خشية على وضع والدها الأسير: "أصبح أبي كبيرًا في السن بعد أن اعتُقل وهو في نهاية الخمسينات، للأسف لا نستطيع الاطلاع على وضعه الصحي، إذ يحجب الاحتلال كل التقارير الطبية عن حالته، فقط نحصل على المعلومات من نادي الأسير".
"في عام 2019 جاءنا خبر أنه أصيب بالسرطان، ولكن العلاج الكيماوي سبَّب له هزلًا شديدًا ومناعة ضعيفة ونزيفًا بأنفه ودورانًا، وفي شهر يناير 2020 استؤصلت معدته ووضع جهاز مكانها"، تتحدث لصحيفة "فلسطين" عن تفاصيل مرضه.
"أتدري؟".. تُعلِّق على ما حدث مع والدها: "لم نعلم كعائلة ولم تأخذ سلطات الاحتلال موافقتنا على إجراء العملية، وعلمنا بها من خلال نادي الأسير بعد ذلك (..) كذلك يتعرض أبي لسلسة من الإهمال الطبي في تأخير جلسات علاجه، وعدم صرف الدواء في وقته".
تنفجر كلماتها الغاضبة على حال والدها: "تخيَّل أنه ورغم كبر سنه ومرضه الشديد، حينما يُنقل لأخذ علاج الكيماوي تُقيَّد قدماه ويداه بالسلاسل ويُنقل بالبوسطة دون أي مراعاة لوضعه الصحي".
ويتعرَّض الأسرى في سجون الاحتلال للإهمال الطبي المتعمّد، مما يشكل خطرًا على حياتهم، ويؤدي في أحيان عديدة للاستشهاد، كما حدث مع الأسير كمال أبو وعر الذي استشهد نتيجة إصابته بمرض السرطان ومن ثم فيروس كورونا.
كما تتعمد سلطات الاحتلال المماطلة في تقديم الرعاية الصحية للأسرى، ما يفاقِم أوضاعهم الصحية، خاصة الأسرى المرضى والقابعين في ما يسمى "عيادة سجن الرملة" والتي يتواجد فيها ما بين 14 – 19 أسيرًا.
أربع غرف لا تزيد مساحة كل غرفة على أربعة أمتار مربّعة، كل واحدة منها تضم أربعة إلى خمسة أسرى مرضى أو مصابين، يفصل بينها ممر ضيّق مليء بالأبواب الحديدية، ولا يحظى الأسير في سرير مرضه بحرية الحركة إذ يبقى مكبلًا على مدار الوقت، هذا المكان الذي يفتقر إلى أدنى مقومات الرعاية الصحية يسمى عنوة عيادة سجن "الرملة".
على أسرّة العيادة ينهش مرض السرطان جسد الأسير المريض معتصم رداد، الذي يتناول (57) حبة دواء يوميًّا وجرعة علاجية من الكيماوي كل شهرين، في حين أن أصابع قدميه بدأت تتآكل.
كما يرقد على سرير آخر الأسير منصور موقدة مقعدًا لا يقوى على الحركة من جراء إصابة لا تزال آلامها ترافقه منذ (17 عامًا) حين اعتُقل، حتى بات لا يقوى على قضاء حاجته معتمدًا على الأكياس الطبية المساعدة لإخراجها.
أما الأسير خالد الشويش فحاله ليس أفضل، فالآخر مقعد ويعاني مرضًا في الأعصاب، فالرصاصات التي أصابته لا تزال مستقرة في جسده، كما يعاني تعطلًا في عمل جهازه الهضمي.
مبتور القدمين
على كرسي متحرك، لا يحمل الأسير المريض مبتور القدمين ناهض الأقرع ثلاثة مؤبدات، بل مرضًا مزمنًا وحالة صحية صعبة في العيادة ذاتها.
"مر عامان ونصف ولم أرَ أبي، نسمع عن وضعه المتردي فقط، لديه مشاكل كبيرة في الرئتين ويعاني صعوبة في التنفس ونخشى أن يطاله فيروس كورونا لأنه ليس لديه مناعة"، تعبِّر نسمة الأقرع (23 عامًا) عن خوفها على والدها.
أما عن سياسة الإهمال الطبي، فقد كان السؤال كفيلًا بإطلاق تنهيدتها المتألمة بلهجة عامية: "مش مهتمين فيه، وبدورش عليه، بس لما يتألم بيعطوه حبة أكامول وخلص زيه زي باقي الأسرى بالعيادة".
نسمة التي أسر الاحتلال والدها عام 2007م عبر حاجز بيت حانون/إيرز ولم تزد يومها على ثماني سنوات، مرَّت بمراحل كثيرة افتقدته فيها، لكن رسالتها في يوم الأسير الفلسطيني أن ترى والدها أمامها وهو حلم ينمو في قلوب الأسرى وأبنائهم، تأمل أن يتحقق قريبًا فوالدها يحتاج إلى رعاية خاصة من أفراد أسرته لا تتوفر في سجون الاحتلال.
ضحية إهمال طبي
ظروف اعتقال سيئة وغير آدمية، تحقيق وتعذيب استمر تسعة أشهر، دخل السجن بلا أمراض تذكر، عوامل أدت لإصابة الأسير أحمد عبيد (25 عامًا) بمرض سرطان الأمعاء ووصوله إلى حالة صحية حرجة، يماطل الاحتلال منذ عام في استئصال الورم السرطاني وإجراء عملية عاجلة، رافضًا نداءات استغاثة أحمد ومن خلفه عائلته.
"متخوف أن يخرج نجلي شهيدًا من سجون الاحتلال، لأنه يتعمد المماطلة في علاجه منذ عام، ويتركه فريسة لمرض السرطان الذي ينهش جسده ويستوطن بداخله" كومة مشاعر تتزاحم في صوت والد الأسير، بها مسافة طويلة من الشوق فهو لم يزُر ابنه منذ أسره، باستثناء زيارة يتيمة سمح الاحتلال لزوجته بزيارة ابنها.
يلخص رحلة ابنه في سجون الاحتلال بعد اعتقاله عام 2017 في إثر مشاركته في مسيرة سلمية شرق غزة: "حينما اعتقل اتصلت بي مخابرات الاحتلال باليوم التالي وأبلغتني أن أحمد اعتُقل بسجن عسقلان، ثم تواصلت معي محامية بعد ذلك قبل إصدار الحكم، وأخبرت أني ممنوع من الزيارة خلال فترة التحقيق التي مرت صعبة، مرت فيها تسعة أشهر كأنها سنوات تمنيت اللحظة التي سيسمح لي بزيارته".
يتزاحم الغضب بين كلماته: "للأسف أبلغت بعد انتهاء التحقيق أني ممنوع من زيارته ومنذ ثلاثة أعوام لم أزرُه".
"أتدري؟" .. يتوقف والده عندما نقلت له زوجته خلال الزيارة الوحيدة لابنها: "كانت الزيارة قبل النطق بالحكم، رأته شخصًا آخرًا، رأت أمامها شابًا مرهقًا ينهكه المرض، هزيلًا وكأنه ليس ابنها (..) انتظرت تسعة أشهر لتراه في حال مختلف، فكان اللقاء صعبًا رجعت إلى البيت منهارة".
في سجون الاحتلال تلذذ الاحتلال بتعذيب أحمد، بدءًا بتركه في زنازين ضيقة ومنع إدخال الملابس له، فضلًا عن التهديد النفسي، وحرمانه الدواء، وضع يجعل والد الأسير يضع الاحتلال متَّهمًا رئيسًا في التسبب بإصابة نجله بالسرطان.
بقرص أكامول وكأس ماء، يبقى الطبيب الإسرائيلي في السجن الوحيد في العالم الذي يعالج جميع الأمراض بحبة دواء كما يفعل مع أحمد وكغيره من الأسرى.
ويبلغ عدد الأسرى المرضى في سجون الاحتلال (1200) أسير مريض، منهم (140) يعانون أمراضًا تُصنَّف في درجة الصعوبة والخطر، منهم (21) أسيرًا يعانون مرض السرطان، و(34) يعانون إعاقة حركية ونفسية، وكثير منهم مصابون بأمراض القلب والفشل الكلوي والربو وأمراض أخرى.