تُشكل عملية إجراء الانتخابات الفلسطينية داخل مدينة القدس المحتلة إحدى محطات الاستقلال عن هيمنة الاحتلال الإسرائيلي وسطوته السياسية والعسكرية على المدينة المقدسة، وهي بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني وقواه السياسية المختلفة عنوان لتحدي الاحتلال، ومعركة لفرض الإرادات بين احتلال عسكري وشعب يسعى إلى نيل الحرية والاستقلال.
فالقدس وعبر تاريخ النضال الفلسطيني كانت وما زالت مركزًا للصراع مع الاحتلال، والأطماع الإسرائيلية في القدس لم تتوقف في يوم من الأيام، بدءًا من احتلال غالبية أحياء المدينة خلال نكبة 1948م، ثم الاستيلاء العسكري على باقي أحيائها عام 1967م، مرورًا بفرض الاحتلال تشريعات قانونية توفر غطاءً زائفًا لعملية التهويد الإسرائيلي والتغيير الديموغرافي التي تجري بهدوء في أحياء وشوارع المدينة المقدسة، وتعمد حرمان أهلها من حقوق الإقامة في المدينة المقدسة، وفرض الضرائب الباهظة عليهم بهدف تفريغ المدينة من سكانها الحقيقيين، وليس انتهاءً بالاقتحامات المتواصلة على مدار الساعة للمسجد الأقصى، ومحاولات تقليص التواجد الفلسطيني فيه من خلال إصدار أوامر عسكرية تمنع مئات الفلسطينيين من الاقتراب من المسجد الأقصى لمُدَد تمتد شهورًا طويلة، بهدف فرض التقسيم الزماني والمكاني في المسجد الأقصى المبارك بين المسلمين واليهود كمقدمة لهدم الأقصى وبناء الهيكل اليهودي المزعوم في البقعة المقدسة.
لا شك أن الوجود الفلسطيني في مدينة القدس يمثل رمزًا للصمود والتحدي، وقد حقق أهالي القدس إنجازات يُحتَذى بها على صعيد تحدي قرارات الاحتلال، إذ أرغموا الاحتلال في شهر يوليو 2017م على التراجع عن إقامة بوابات إلكترونية على أبواب المسجد الأقصى، كما نجحوا في فبراير 2019م في فتح "باب الرحمة" شرقي المسجد الأقصى رغمًا عن إرادة الاحتلال الذي أغلقه طيلة عقد من الزمن، وحاول دون جدوى تحويله إلى كنيس يهودي، في معركة فرض إرادات عززت من قوة الشعب الفلسطيني الأعزل في مواجهة الترسانة العسكرية للاحتلال.
واليوم ونحن نقبل على معركة سياسية مع الاحتلال في مدينة القدس المحتلة، وفي ظل تعنت الاحتلال ورفضه إجراء الانتخابات التشريعية داخل المدينة المقدسة، بهدف دفع الفلسطينيين إلى اليأس من السيطرة المستقبلية على المدينة التي يعتبرها الاحتلال عاصمة لدولته المزعومة، ينبغي أن نتكاتف جميعًا، ونعيد الكَرة من جديد في معركة فرض الإرادات مع الاحتلال، وأن نحرص على عدم تحقيق ما يسعى إليه الاحتلال من هدف خفي بدفعنا إلى إلغاء الانتخابات التي سيعزز إجراؤها حتمًا الحضور السياسي الفلسطيني في المحافل الدولية، خاصة مع اختيار الشعب الفلسطيني قيادته الحقيقية التي تعبر عن نبض الشارع الفلسطيني الذي يطالب بالحرية ويرفض استمرار الاحتلال.
معركة فرض الإرادات تتطلب ابتداءً وجود رغبة حقيقية لدى قيادة السلطة الفلسطينية وحركة فتح في الضفة المحتلة بدخول هذه المواجهة مع الاحتلال، والتي قد يكون أدنى أثمانها التخلي عن الامتيازات الوظيفية التي يتمتع بها كبار قادة السلطة وحركة فتح في الضفة المحتلة، كما تتطلب هذه المعركة السياسية توافقًا فلسطينيًا على آليات الاشتباك مع الاحتلال، ومدى مشاركة محافظات الضفة المحيطة بالقدس المحتلة لأهلها المقدسيين في تحديهم للاحتلال خلال الدعاية الانتخابية ويوم الاقتراع، فليس من المنطق أن نترك الاحتلال يستفرد بأهلنا العُزل في القدس، وفي ذات الوقت نوفر الأمن والأمان من خلال التنسيق الأمني لأكثر من أربعمئة وواحد وأربعين ألف مستوطن يستبيحون أراضي الضفة المحتلة بشكل مخالف للقانون الدولي بحسب تقرير نشرته منظمة "بتسيلم" الإسرائيلية في مارس الماضي.
تمتلك السلطة الفلسطينية العديد من الأدوات السياسية التي تتيح لها تجاوز الرفض الإسرائيلي لإجراء الانتخابات التشريعية في القدس المحتلة، أولاها تشكيل ضغط دبلوماسي على دولة الاحتلال من خلال المحافل والمنظمات الحقوقية والدولية، بحيث تُبرز عنصرية الاحتلال ومخالفتها للاتفاقيات المبرمة مع السلطة الفلسطينية، وثانيتها التنسيق لإقامة مراكز اقتراع داخل ممثليات الدول الصديقة في مدينة القدس المحتلة، إضافة إلى قيامها بتوفير إمكانية الاقتراع الإلكتروني الآمن للناخبين في مدينة القدس، وإتاحة المجال للمقدسيين الاقتراع في أماكن تسيطر عليها الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وغيرها من الأدوات التي يمكن لقيادة السلطة تفعيلها لو امتلكت الرغبة الحقيقية بإجراء الانتخابات.
أخشى أن قيادة السلطة الفلسطينية وحركة فتح في الضفة المحتلة تناور سياسيًا في ظل تصاعد مؤشرات فوز قائمة القدس موعدنا المدعومة من حركة حماس، وترهل الحالة التنظيمية في صفوف حركة فتح التي تدخل الانتخابات بقوائم متعددة ومتنافسة، ومع الإعلان عن استئناف المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، وفي ظل تحذيرات المسؤولين الإسرائيليين من فوز مُحقق لحركة حماس في حال تم إجراء الانتخابات، يبقى السؤال الأبرز: هل السلطة الفلسطينية وحركة فتح ترغبان في الاشتباك السياسي مع الاحتلال في القدس، أم هما تبحثان عن ذريعة للتهرب من استحقاق انتخابي قد يُضعِف سطوتهما على الضفة المحتلة؟