فلسطين أون لاين

اعتراف "حسين الشيخ" لن يمحو بصمات الكارثة

تقرير الموظفون المفصولون.. بـ"جرةِ قلم" أغرقتهم السلطة بالفقر

...
صورة أرشيفية
غزة/ يحيى اليعقوبي:

"أنا شفت ذل ما حد شافه".. يجهش بالبكاء، ولا تستطيع أن تقتنص من كلماته المختنقة سوى الكلمات السابقة، قبل أن تهدأ ثورة دموعه، ويخمد بركان غضبه، فتخرج جمرات ملتهبة كرصاصة تنطلق من فوهة بندقية من الموظف حلمي السويركي: "إذا كانوا مشغلين ناس كذابين ايش ذنبي أروح ضحية تحت الرجلين؟".

والسويركي موظف في السلطة الفلسطينية فُصل من وظيفته قبل 15 عاماً، بعد أن صدر بحقه تقرير كيدي تسبب بقطع راتبه بقرار من رئيس السلطة محمود عباس.

بأقل من ثلاثين ثانية ردَّ عضو اللجنة المركزية لحركة فتح حسين الشيخ على سؤال إذاعي مُقرًّا: "قطعنا رواتب موظفين من قطاع غزة بناء على تقارير كاذبة، ونتحمل المسؤولية عن ذلك، وربما وقع الظلم على العديد من الموظفين بطريقة كيدية.. أخطأنا فيه وسنراجع أنفسنا".

قارعة المعاناة

اعتراف تمر معه خمسة عشر عامًا ذاق خلالها السويركي ومئات الموظفين غيره "الويل"، حينما ألقوا على قارعة المعاناة و"الذل" وجربوا كل الأعمال الشاقة، وظل الألم ينزف منهم لا يسمع صوتًهم أحد ولا يلتفت لمعاناتهم أحد، رمتهم السلطة الفلسطينية في مستنقع أزمة لم يستطيعوا الخروج منها.

بفعل ذلك "الخطأ" الذي اعترف به حسين الشيخ أخيرًا، تركت الظروف بصمتها على حياة عائلة السويركي، تمامًا مثل تجاعيد مسن أفرج عنه بعد أن غيب خلف القضبان لسنوات طويلة، فلن تعطيه الحرية العمر الذي ضاع في السجون، ولن تعيد له ملامحه، كحال السويركي الذي غيب خلف سجن الفقر وظل قابعًا فيه لا يسمع نداء استغاثته إلا جدران كانت تبتلعُ صوته أيضًا.

رجع بشريط ذكرياته إلى الخلف، إلى خمسة عشر عاما، حابسًا دموعه خلف سد الوجع ينبش في تفاصيل معاناته: "حينما لم يتم تحويل راتبي لحسابي البنكي بعد أحداث الانقسام بشهر، ذهبت في الشهر الثاني دون جدوى (..) اتصلت على كل المسؤولين وكانوا يعطونني وعودا بالانتظار والتريث، ثم أغلقوا هواتفهم أمام مكالماتي، وصدوا أبواب منازلهم أمام مراجعاتي، وتركت وحدي في الشارع".

يدخل السويركي في قلب معاناته أكثر: "عملت عامل نظافة في أحد المطاعم، وكنت أنظف دورات المياه والصحون لأحد عشر عاما، ولو بقيت على رأس عملي لحصلت على رتبة".

ترك السويركي وحيدا يعيش بالإيجار ويعيل ثلاثة أبناء، وعائلة مكونة من أحد عشر فردًا منهم ثلاثة مرضى، في حين تخضع والدته لعملية غسيل كلى دورية.

تزوره الدموع مرة أخرى، وهذه المرة قالها بصوت مدوٍّ: "أنا بقدرش أدخل أكثر من عشرة شواقل باليوم، ما خليتش محل حتى الدكاكين أشتغل فيها عشان أطعمي أولادي وعيلتي، وبالآخر بيجي حسين الشيخ بحكيلك أخطأنا.. طيب أنا إيش ذنبي أموت وأكون ضحية لتقرير كاذب".

أما هنا فصوت القهر ينبعث من أعماق الموظف "ف م" الذي قُطع راتبه عام 2007: "كنت أعيل عائلة من ثلاثة عشر فردًا قبل أن تقطع السلطة راتبي، وتتحول حياتي إلى كابوس، وأصبحتُ أجيرًا لدى الآخرين في الزراعة لسد رمق أبنائي".

تصريحات الشيخ لاقت موجة واسعة من الغضب في أوساط الموظفين المفصولين وناشطين وقادة فصائل، فقد كتب الصحفي محمد المنيراوي: "اعتراف #الشيخ بقطع رواتب آلاف الموظفين على خلفية "تقارير كاذبة" يعني أن سلطته ما زالت تتعامل مع الناس وفق "#قانون_السلامة_الأمنية" المخزي، وأن أرزاق الناس رَهْن "شكّة قلم" من مراهق أو منافق أو خائن لجاره.

القيادي الفتحاوي حسام خضر عد تصريحات الشيخ بمنزلة "استهزاء واستخفاف بمشاعر الموظفين الذين قطعت رواتبهم"، في حين عدها القيادي بحركة فتح أشرف جمعة "استغلالًا رخيصًا لأزماتهم في سياق الدعاية الانتخابية".

إقرار بالظلم

مجرد الاعتراف أن هناك ظلما وقع على الموظفين، هو إقرار بالظلم الذي اقترف بحقهم منذ خمسة عشر عاما، نتجت عنه تأثيرات سلبية غيرت مجرى حياة الموظفين بشكل كارثي، بحسب الناطق باسم ملف موظفي "تفريغات 2005" رامي أبو كرش.

يقول أبو كرش لصحيفة "فلسطين": "بحكم معايشتي للعشرات من الموظفين الذين فصلوا من الخدمة بتقارير كيدية مغلوطة، فإنهم مروا بظروف قاسية، فضلا عن أنهم محسوبون عند أي مؤسسة أنهم موظفون، وعليه يُحرمون من المساعدة".

ويبلغ عدد الموظفين المفصولين نحو 700 موظف من جميع الأجهزة الأمنية، وفق أبو كرش، مستعرضا معاناة موظفي 2005، الذين ارتكبت حكومة سلام فياض –الذي يرشح نفسه للانتخابات التشريعية حاليا– ما وصفها بـ"المجزرة"، إذ فصلت 12 ألف موظف من تلك التفريغات واتخذت بحقهم إجراءات تعسفية مخالفة لقانون قوى الأمن وقانون الشؤون المدنية، ثم أعادتهم الحكومات التالية على بند منحة.

وقال: إن "تصريحات حسين الشيخ عن بدء حل ملف تفريغات موظفي 2005، غير صحيحة، وللاستهلاك الإعلامي"، معتبرا أن "الشيخ يستخف بمشاعر الموظفين عبر تصريحات فارغة المضمون، وتصريحاته فقط دعاية انتخابية".

وأضاف: "ما أُبلغنا به رسميا أن أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح والسلطة وحكومة اشتية أجلوا حل الملف لما بعد الانتخابات".