تصاعدت بالأمس وتيرة التصريحات الصادرة عن قيادات فتحاوية عن عدم سماح الاحتلال بإجراء الانتخابات في مدينة القدس، وأنه لا يمكن إجراء انتخابات دون القدس.
من المسلم به لدى كل وطني فلسطيني غيور على القدس أن القدس ثابت من الثوابت الفلسطينية التي لا يمكن لأي حر شريف أن يفرط فيها أو يساوم عليها، فالقدس تمثل درة تاج الكفاح الفلسطيني منذ ما يزيد على مائة عام.
وقد سبق لي في مقال سابق أن أشرت إلى نقطة القدس والانتخابات، وقد نقلت فيه موقف حركة حماس من الانتخابات في القدس، وكيف عبر الدكتور خليل الحية رئيس قائمة حركة حماس للانتخابات التشريعية (قبل أن تعلن القائمة) عن موقف الحركة حينما قال: "إن الحركة مستعدة لتقديم ألف شهيد من أجل القدس، ويجب أن نجعل من القدس ساحة اشتباك مع العدو".
ولكن هل يعني عدم موافقة الاحتلال على إجراء الانتخابات في القدس تأبيد القيادة الفلسطينية الحالية في مواقعها دون سقف زمني معلوم، وقد مر عليها الآن نحو ستة عشر عامًا في الحكم رغم انتهاء الولاية الدستورية لها حسب القانون الأساسي منذ عام 2009م؟
هذا سؤال يحتاج كل فلسطيني إلى إجابة عنه من القيادة الفلسطينية، خصوصًا مع تشظي الحالة الداخلية الفلسطينية على نحو خطر، وفشل هذه القيادة في توحيد النظام السياسي الفلسطيني منذ عام 2007م حتى الآن، وتعنتها الشديد في ملف المصالحة، وإقدامها على فرض عقوبات على قطاع غزة عانى منها كل أبناء غزة على اختلاف توجهاتهم السياسية والحزبية، وفشل المشروع السياسي للقيادة الحالية، ومع استمرار الاحتلال في تهويد القدس وقضم الأرض الفلسطينية بالاستيطان واستمرار الحصار على قطاع غزة.
هل فعلًا شعار "لا انتخابات دون القدس" يُعبر حقيقة عن التمسك بالقدس ثابتًا من الثوابت الفلسطينية أم أنه شعار يرفع مسوغًا للهروب من استحقاق الانتخابات الذي أجمع عليه الكل الوطني الفلسطيني؟
هل شعار "لا انتخابات دون القدس" يعني أن القيادة الفلسطينية تخشى ضياع حق الفلسطينيين في القدس أم أنه غطاء للهروب من توقع الخسارة في الانتخابات التشريعية والخضوع للضغوط الإقليمية وضغوط الاحتلال، وكل من لا يريد لقوى المقاومة أن تحظى بالشرعية الانتخابية مرة أخرى على حساب مشروع أوسلو؟
إذا كانت القضية هي الهروب من الانتخابات فلا داعي لرفع شعار القدس التي هي أجل وأسمى من كل ألاعيب السياسة الدنيئة والقذرة، وليكن هناك موقف واضح من حركة فتح أن وضع الحركة لا يؤهلها لخوض الانتخابات في هذه المرحلة، صحيح أن العملية الديمقراطية الحقيقية في الأصل لا تنتظر الأحزاب والقوى السياسية لخوضها، فهي حق الشعب الذي لا يرتهن لأي فصيل أو حزب، لكن خصوصية الوضع الفلسطيني قد تسمح بتوافق معين، إذ إن التوافقات الحزبية والفصائلية هي السائدة هذه المدة للخروج من حالة الانهيار الوطني التي علق فيها الشعب الفلسطيني منذ خمسة عشر عامًا، ولكن يجب أن يكون لهذا الموقف (تأجيل الانتخابات) -إذا صحت التوقعات- استحقاق وطني آخر على حركة فتح والرئيس أبي مازن على وجه الخصوص أن يؤدياه، وهو التوافق الوطني على حكومة وحدة وطنية فلسطينية تعيد توحيد النظام السياسي الفلسطيني وتزيل آثار الانقسام وتتبنى برنامج عمل وطني متفق عليه يوحد الخطاب السياسي الفلسطيني أمام المجتمع الدولي، وكان هذا التوجه أولى للبدء فيه قبل الانتخابات، من وجهة نظري الشخصية.
أما قضية الهروب من الانتخابات تحت أي شعار، والإبقاء على الحالة الفلسطينية كما هي؛ فأظن أنها قضية أصبحت مرفوضة من القوى الوطنية كافة، حتى كثير من قيادات وعناصر حركة فتح الذين كشفت الأيام الأخيرة سخطهم الشديد على طريقة عمل القيادة الفتحاوية، الأمر الذي أدى إلى تشكيل عدد من القوائم الانتخابية لحركة فتح غير تلك القائمة الرسمية للحركة، لذا إننا الآن أمام إحدى طريقتين على صعيد العمل الوطني، أما الطريق الأول فهو استمرار السير في طريق الانتخابات حتى نهايته، ولتفرز لنا صناديق الانتخابات قيادة جديدة تحظى بشرعية الصندوق وتعبر عن نبض الشارع الفلسطيني، وهو الخيار الأسلم والأفضل الذي يحظى بالإجماع الشعبي والفصائلي.
وأما الطريق الآخر -وهو الخيار الأسوأ- أن تعمل القيادة الفلسطينية يمثلها الرئيس أبو مازن على تأجيل الانتخابات لأي سبب كان، منع الاحتلال إجراء الانتخابات في القدس أو أي سبب آخر (ومن أراد التأجيل فلن يعجز عن إيجاد الأسباب)، ولكن على الرئيس أبي مازن أن يعلم أنه لم يعد مقبولًا مطلقًا أن يبقى هو متفردًا بالقرار السياسي والاقتصادي والإداري، ومهيمنًا على السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعيله -إن أراد تأجيل الانتخابات- أن ينزل عند رغبة المواطنين والأحزاب الفلسطينية كافة بتشكيل حكومة وحدة وطنية تجمع الأطياف السياسية كافة، بصلاحيات واسعة وبرنامج وطني متفق عليه لإنهاء حالة الانقسام، وإن لم يحدث ذلك فلا أظن أن هناك من يجرؤ على وصف أبي مازن بـ"الشرعية".