فلسطين أون لاين

حقوق 340 متظاهرًا سلميًّا تنتظر أن تأخذ العدالة الدولية مجراها

تقرير عائلات شهداء "مسيرات العودة" في ذكراها الثالثة.. عندما يكون "الجرح في الكف"!

...
صورة أرشيفية
غزة/ يحيى اليعقوبي:

بالنسبة لوالدة الشهيدة رزان النجار، فإن 30 مارس/ آذار 2018؛ تاريخ لن يمحى من روزنامة أيامها، ففصول وأحداث المسيرات وما تخللها من جرائم قتل ضد متظاهرين سلميين عزَّل، ما زالت جاثمة على ذاكرتها كبقية الآلاف من عائلات الشهداء والجرحى.

في أول يوم لها في المسيرات، انطلقت رزان النجار ترتدي الرداء الأبيض تطلب الإذن من والدتها: "حأنزل كمسعفة متطوعة اليوم"، تفاجأت الأم: "انت واثقة!.. حتقدري؟" لتأذن لها بعد ذلك، وهناك ذهبت رزان وأثبتت وجودها من اليوم الأول، فتعاملت مع عدة حالات.

العاشرة مساءً، عادت رزان بعد يوم صعب تخلله قيام جنود جيش الاحتلال وقناصته بقتل العديد من المتظاهرين، الذين خرجوا للمطالبة بحق العودة إلى ديارهم، وملابسها البيضاء ممتلئة باللون الأحمر القاني.

كأنه شريط أعاد تقليب الأحزان في ذاكرتها، راحلة لذلك اليوم: "لا أنسى اليوم الأول الذي شاركت فيه رزان في المسيرات، حينما ذهبت لإسعاف الصابين كمتطوعة ولم يأتِ ذلك من فراغ لأنها ولدت ورأتني متطوعة في العمل النسائي لمدة 16 عامًا، وحملت حقيبتها الطبية وعادت تكسوها الدماء".

"كثيرًا، يشدني ما قالته لي يومها عندما طلبت منها أن تتجنب التقدم باتجاه السياج الفاصل: "أنا مسؤولة عن أرواح ممكن تموت"، فكانت لا تعود من الميدان إلا الساعة التاسعة مساء، تماما كأم حنون، تتأكد من حالات المصابين" موقف تشده والدة رزان من ذاكرتها في مستهل حديثها مع صحيفة "فلسطين".

واليوم وبعد فتح محكمة الجنايات الدولية تحقيقا في جرائم حرب ارتكبت في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تعتبر والدة رزان ذلك انتصارا لقضية رزان التي استشهدت في 1 يونيو/ حزيران 2018م في أثناء إسعافها لأحد المصابين، وأيضا للشعب الفلسطيني بأن "القانون سيأخذ مجراه وستكشف محكمة الجنايات الدولية للعالم كيف ارتكب الاحتلال جرائم حرب بحق رزان وغيرها من المسعفين على الرغم من أن القانون الدولي يكفل حمايتهم".

"كانت رزان تداوي وراء الجراح التي تنزف بسبب رصاصات الاحتلال (...) باستشهاد ابنتي رأى العالم كيف لا يحترم الاحتلال سيادة القانون ولا اتفاقيات جنيف، كما أنه بعد قتله لرزان لم يرتدع بل تمادى في قتل المسعفين والعالم كله رآه" تعلق.

رفعت عائلة رزان قضية ضد الاحتلال في أروقة الجنايات الدولية وما زالت تنتظر رد المحكمة بقبولها، وقبل ذلك أودعت القضية في المحاكم الإسرائيلية التي تدرك أنها تغطي على جرائم جنودها، لكن هذه الخطوة جاءت لقطع الطريق على الاحتلال في حال الادعاء في القضاء الدولي عدم علمه بما جرى.

ودأب جيش الاحتلال على قمع مسيرات العودة السلمية بعنف، بإطلاق النار وقنابل الغاز على المتظاهرين بكثافة، ما أدى لاستشهاد 340 مواطنا بينهم مسعفون في حين يواصل احتجاز جثامين 16 شهيدا ولم يسجلوا في كشوفات وزارة الصحة، فضلا عن إصابة نحو 25 ألف متظاهر.

مما يزيد تفاؤل والدة رزان النجار وبقية عائلات الشهداء في محاكمة قادة الاحتلال، ما أكدته مدعية المحكمة الدولية "استخدام (إسرائيل) القوة الفتاكة ضد الفلسطينيين المشاركين في مسيرات العودة".

"السلفي الأخير"

مرت ثلاثة أعوام، كأنها الأمس، فما زالت شفاء أبو حسنين (60 عامًا)، والدة الشهيد المسعف موسى أبو حسنين، تحتفظ ببقعٍ من دمائه المتناثرة على شالٍ كانت ترتديه لحظة رحيله، وسترة "دفاع مدني" كان المسعف يرتديها بعلامةٍ ولونٍ واضحين تضمن له -حسب القوانين الدولية- عدم التعرض للقتل، إلا أن ذلك لم يتحقق يوم 14 مايو/ أيار المنصرم، حين باغتته قناصة الاحتلال الإسرائيلي بطلقاتها النارية.

تستحضر صورة ذلك اليوم، حينما وصلت إلى المقبرة الشرقية بحي الشجاعية شرق مدينة غزة، ففاجأته من الخلف مداعبةً إياه واحتضنته، حينها التفت إليها وابتسم لزميله في "الدفاع المدني"، مفتخرًا بوالدته: "أمي قيادية، أتت إلى المنطقة الصعبة قبلنا".

استغل موسى الموقف وطلب من صديقه التقاط آخر صورة جمعته بوالدته، والتقط صورة "سلفي" معها بهاتفه الشخصي، قائلًا: "ربما تكون هذه الصورة ذكرى"، وثقت لحظات فرح، سبقت عاصفة حزن أغارت على قلبها، بقيت جاثمة على ذاكرتها التي استهلت به حديثها: "ذهب موسى لإسعاف المصابين، وفي أثناء إجلائه المصابين من المكان أصابه طلق ناري اخترق كتفه من الأعلى وخرج من أسفل البطن (بشكل زاوية)، لم يكن هناك إسعافات، كان المكان مكشوفًا والأرض وعرة والاحتلال يطلق النار بكثافة".

مشهد حدث أمام مرأى والدته التي سارعت إليه غير آبهة بكل الرصاص المطلق تجاه أي جسم يتحرك، كانت تصرخ وتستغيث لكن لا أحد يستجيب إلى نداءات "أم محمد"، فطوال الوقت كان دم موسى ينزف على سترتها التي احتفظت بها وهي تحتضنه بين ذراعيها لمدة نصف ساعة حتى استطاع الشبان نقله إلى سيارة الإسعاف من بين زخات الرصاص.

"في ذكرى انطلاق المسيرة أتذكر تفانيه في العمل وإسعاف المصابين، لا أستطيع نسيان مشهد استشهاده بين يدي، لم يغِب عن بالي خاصة حينما يأتيني ابنه غيث الذي لم يتجاوز بضعة شهور لحظة استشهاد والده، واليوم اقترب من عامه الثالث وهو يسألني: "انت وديتي بابا على الجنة يا ستي".

قبل يومين تلقت العائلة بريدا من منسقة الشرق الأوسط في محكمة الجنايات الدولية تفيد بقبول المحكمة للقضية التي رفعتها العائلة لمحاكمة الاحتلال، وهو ما يبرد نار الفراق المستعرة بداخل والدته، بأن تأخذ العدالة حق أطفاله الخمسة، "لكونه شارك في مسيرة سلمية وكان يسعف المصابين فقط".

مشهد لم يكتمل

بخطى متثاقلة، يجرُ المصاب أدهم الحجار والذي يعمل مصورًا صحفيًّا قدمه التي هشمت مفصلها رصاصة إسرائيلية متفجرة أطلقها قناص إسرائيلي في أثناء تغطيته أحداث مسيرات العودة، فهو على موعد مع جلسة استكمال العلاج لحركة المفصل.

شاب يهز بيده شباك السياج الحدودي على مقربة منه يسير جنديان، مشهد لمحته عينا أدهم في السادس من إبريل/ نيسان 2018م، فرفع كاميرته لتوثيق المشهد، لكن الرصاصة وصلت إلى قدمه قبل أن يلتقط صورته، رصاصة غيرت مجرى حياته، فمنذ ثلاثة أعوام أجرى عدة عمليات جراحية، مكث في الأردن سنة وثلاثة أشهر، فقد وظيفته.

وقبل أن يكمل حديثه نخرته وخزة ألم واضعا يده على مفصله، وأخرج تنهيدة بها مسيرة ثلاثة أعوام من الوجع: "كان الهدف من استهداف الصحفيين بنقاط التماس تعمدا لكتم الحقيقة ولعدم إيصال صوت المحتجين، وفي الظلم الذي تعرضه له الأشخاص العزل على حدود القطاع".

عن شروع المحكمة الدولية في التحقيق في جرائم الاحتلال خاصة مسيرات العودة، تعلوه نظرة مترعة بالأمل قائلًا: "كجريح تألمت وعانيت غيَّرت تلك الرصاصة مجرى حياتي وفقدت وظيفتي على إثرها، وأصبح العلاج همي الوحيد. أتمنى محاسبة مرتكبي الاعتداءات والجرائم بحق أي مدني".

لكن ذلك الأمل الرفيع لدى الحجار، تزيد مخاوفه جرائم وأحداث سابقة بقيت فيها المنظمات الدولية صامتة عن محاسبة قادة الاحتلال.