فلسطين أون لاين

تقرير جثة أحدهما مفقودة.. حكاية صياد فقد نجلَيْه في البحر

...
غزة/ أدهم الشريف:

ينسج الصياد أحمد الهسي بمخياط بلاستيكي صغير شباك الصيد على أحد أرصفة ميناء غزة، بيديْن مرتجفتيْن بعد عمر طويل قضاه صيادًا في البحر الذي فقد في عرضه اثنين من أبنائه خلال ممارستهم الصيد على بعد أميال من الشاطئ الممتد من شمال القطاع إلى جنوبه، بطول 40 كيلومترًا.

اعتاد الرجل الجلوس على أرصفة الميناء، وقد أجبر على ذلك لإعالة أفراد عائلته بعد استشهاد نجله البكر محمد عقب اعتداء نفذته بحرية الاحتلال، وأيضًا نجله نائل في حادث عرضي بعرض البحر، وبفارق زمني قصير بينهما لا يتعدى 3 سنوات.

ستدرك جيدًا بمجرد رؤيته بعينيْن غائرتيْن أن أموره ليست على ما يرام، وقد أثقلته الهموم، ودبَّ الشيب في رأسه ولحيته، وملأت التجاعيد وجهه، وجعلته يبدو طاعنًا في السن وعمره لم يتعدَّ بعد الـ58 عامًا، ليس لأسباب حياتية عادية بقدر ما كانت همومًا ربما ليس بقدرة الجبال حملها.

امتهن الهسي الصيد في سن مبكرة عندما كان عمره 10 أعوام فقط، وكان ذلك مطلع عقد السبعينيات من القرن الماضي. ولمن لا يعرف عن الصيد في بحر غزة، فهو من أشقى الأعمال التي يمكن أن يقوم بها الإنسان في ظل بيئة بحرية محدودة المساحة تستبيحها الزوارق الإسرائيلية على مدار الساعة.

لكن ذلك لم يكن بخاطره آنذاك، فهي إرث الآباء والأجداد الذي لا مفر منه.

وقد انتقلت إلى أبنائه محمد ونائل ووائل ومحمود، في عمر مبكر أيضًا، الأمر الذي أبعد والدهم عن البحر منذ بضع سنوات، بعد أن أصبحوا من ذوي الخبرة في ركوب الأمواج على متن القوارب والإبحار بعيدًا لصيد الأسماك.

لكنها زوارق الاحتلال، وكما اعتادت على تعكير صفو رحلات الصيادين في عرض البحر، جاءت لتهاجم قارب صيد كبيرا كان على متنه نجله محمد (35 عامًا)، وهو متزوج وأب لولدين وبنت.

وبينما يراقب صيادون باهتمام بالغ ما يفعله زورق بحرية الاحتلال قبالة سواحل غزة، من بينهم أشقاء محمد، هاجم الزورق بقوة القارب الذي كان يقله هذا الصياد وحده، ودمره بالكامل وأغرقه على عمق كبير، وتسبب حينها بفقدانه.

لقد غرق القارب ومحمد، أمام أعين اثنين من أشقائه شاهدا الحادثة من قرب.

"فُجعنا بخبر فقدان محمد بعد أن داس زورق إسرائيلي قارب الصيد الذي كان على متنه على بعد 5 أميال من الشاطئ" قال الهسي لـ"فلسطين" بألم شديد بدا واضحًا في صوته، عندما تكلم عن الحادثة التي فقد خلالها محمد بتاريخ 4 يناير/ كانون الثاني 2017.

ومنذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا، لم يعثر أحد على جثمان محمد الذي أغرقه وقاربَ الصيد الزورقُ الحربي المعروف جيدًا للصيادين بوزنه البالغ 90 طنًا وسرعته العالية 100 كيلومتر في الساعة الواحدة.

وهذا ما يجعل فرضية نجاة محمد من حادثة الاصطدام في عرض البحر ضعيفة جدًا.

"لقد كان محمد ومن معه من صيادين موزعين على 3 قوارب، في المياه المسموح للصيادين بالإبحار فيها، ولم يشكل أي خطر على البحرية الإسرائيلية.. ما الذنب الذي ارتكبه محمد ليقتلوه بهذا الشكل؟" يتساءل والد الشهيد، وهو يقلب بين يديه مجموعة من الأوراق الرسمية التي تؤكد استشهاد نجله.

تمر الأيام ومعها يزيد شغف والدي محمد وأبنائه وعائلته، لسماع أي نبأ عن جثمان الشهيد، ولم تترك مؤسسة أو منظمة إلا توجهت إليها لكن دون جدوى، إلى أن أصدرت وزارة الداخلية والأمن الوطني بغزة شهادة وفاة، ورسالتَيْن لمن يهمه الأمر تفيد باستشهاده، أصدرتهما إدارة الشرطة البحرية ونقابة الصيادين.

وتعدّ هذه الحادثة فريدة من نوعها في بحر غزة، فعلى الرغم من أن الجميع يعرف انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي من قتل متعمد للصيادين أو اعتقالهم، واستهداف قوارب الصيد بتدميرها أو مصادرتها، فإن حادثة فقدان صياد وعدم العثور على جثمانه لم تتكرر منذ سنين طويلة.

مأساة عائلة الهسي بفقدان أحد أبنائها لم تنتهِ عند هذا الحد، إذ كانت بعد قرابة 3 سنوات على حادثة استشهاد محمد، على موعد مع مأساة جديدة فقدت خلالها ابناً عزيزًا عليها.

كان مفقود العائلة الجديد هو نائل عندما كان عمره يبلغ (30 عامًا)، في عرض البحر أيضًا بسبب حادث عرضي أدى إلى استشهاده.

يقول الهسي إن خللا ما أدى إلى اشتغال مولد الكهرباء على متن قارب الصيد الذي احترق بالكامل، واستشهد على أثر ذلك ابني الثاني نائل، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.

وعندما استشهد نائل وووري الثرى كان نجله الوحيد في عمر الـ10 أشهر فقط.

يضيف والد الشهيدين محمد ونائل أن استشهادهما كانت له تداعيات خطرة على الأوضاع الإنسانية والحياتية لزوجتيهما وأبنائهما وعموم أفراد العائلة.

وأصبح المسن الهسي إلى جانب اثنين آخرين من أبنائه (وائل ومحمود) مسؤولين عن إعالة الأطفال الأربعة أبناء الشهيدين بعد أن فقدوا أبويهم.

لكن ما يثير غضب العائلة عدم اعتماد محمد الذي قضى بانتهاك إسرائيلي في عرض البحر، ضمن كشوفات الشهداء لدى مؤسسة رعاية أسر الشهداء والجرحى، الذين يحصلون على مخصص مالي شهري مكفول بالقانون.

ولعدم العثور على جثمان محمد لم تعترف المؤسسة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية بأوراقه الصادرة عن غزة، وأخبرت عائلته أنها تعده مفقودًا.

مقابل ذلك لم يترك والد الشهيديْن جهة رسمية وأهلية وحقوقية إلا توجه إليها من أجل إيجاد الحلول المناسبة، لكن دون جدوى، إذ لم تفلح جهوده في إقناع إدارة مؤسسة رعاية أسر الشهداء، بأن محمد قضى شهيدًا وفُقد جثمانه في البحر، مع تنكر الاحتلال لجريمته بحق الصياد.

وكل هذه الأسباب جعلت والد الشهيدين، يجوب أرصفة ميناء غزة بحثًا عن أي عمل خاص بالصيد بإمكانه القيام به مقابل دخل مادي بسيط لإعالة أفراد أسرته وأبناء الشهيدين.

ويملك الهسي خبرة كبيرة في صناعة شباك الصيد بمختلف أنواعها، ويعرفه الكثير من الصيادين في غزة، وبناءً على رغبتهم يتنقل بين المحافظات الخمس للقطاع لصناعة الشباك مختلفة الأحجام والأنواع.

وبينما يعيش الهسي على أمل العثور على جثمان نجله محمد، فإن صيادين جاؤوا بعد فترة طويلة من استشهاده بساق إنسان متحللة أخرجوها من البحر، ولاحقًا جاءوا له بجمجمة، لكن شيئًا لم يشده إليها على الإطلاق، وأدرك عندها أنها لا تعود لمحمد.

هناك على رصيف الميناء يجلس الهسي يحيك شباك الصيد، قد تستمر الجلسة الواحدة 6 ساعات متواصلة. يقصُّ مأساته بفقدان ابنيه على الصيادين والصحفيين وزوار الميناء، وقد حُفرت حكايته في ذاكرة أحفاده الذين يكبرون بمرور الأيام والسنين، وسيأتي يوم يركبون فيه البحر ورثةً لأبويهم الشهيدين وشاهدًا آخر على معاناة الصيادين الغزِّيين ومآسيهم.

المصدر / فلسطين أون لاين