تنقل بين سجون الاحتلال كافة، تجرع بين ظلمة الزنازين مرارة البعد عن الأهل وعن قدسه التي يعشق وينتمي ويحلم أن يعانقها من جديد، وتكتحل عيونه بجمال قبتها الذهبية، سرقت تلك السجون أكثر من نصف عمره أسيرًا، لكن إرادته الصلبة كانت تقرب مسافة البعد وتهون قسوة الغياب القسري.
قبل أيام انتهت أحد عشر شهرًا أمضاها النائب محمد أبو طير في سجون الاحتلال، واشتمَّت أنفاسه عبق الحرية.
أطلق أبو طير العنان لكلماته عبر طرف سماعة الهاتف الأخرى لصحيفة "فلسطين"، التي انبعثت من خلفيتها بعض أصوات المهنئين، ليُحدث عن مرارة السجن بالقول: "حرمان الحرية والبعد عن الأهل، ومغتربون عن القدس، كلها أو جاع متلاحقة سببها الاحتلال، ينغص علينا حياتنا وأعمارنا ويحرمنا ديارنا (...) الإنسان حينما يخرج من السجن –بعد تلك السنوات- وكأنك خرجت من القهر للنور والتحرر".
وفي 25 يناير/ كانون الثاني 2006، انتخب أبو طير نائبًا في المجلس التشريعي الفلسطيني عن كتلة "التغيير والإصلاح"، وكان الشخصية الثانية على القائمة التي رشحتها حماس لخوض انتخابات التشريعي بعد إسماعيل هنية، ومن هنا بدأ بدفع ضريبة هذا الانتخاب، ليبدأ رحلة أخرى غيرت مسار حياته.
فبعد انتخابه بأشهر اعتقله الاحتلال وأفرج عنه عام 2010 مبعدًا عن مدينة القدس، ثم أعيد اعتقاله مدة عامل كامل عام 2011، ثم أُسر مجددًا 17 شهرًا عام 2016، وفي 13 مارس 2019 أعيد اعتقاله إداريًا لسبعة أشهر عقب دهم منزله في حي أم الشرايط بمنطقة البيرة، وفي 13 أبريل 2020 أعيد اعتقاله مدة أحد عشر شهرًا.
ما سبق ليس أرقامًا مجردة، بل عمر مضى، وملامح تغيرت وكبرت، حيث اكتسى شعره باللون الأبيض في السجون، "لا يوجد مبرر لاعتقالنا طوال السنوات الماضية، وإنما كانت ظلما وعدوانا، لكنها حياة نمضيها بالصلاة والقرآن كما نعيشها في الخارج"، يقول أبو طير، مضيفًا أن التجربة التي خاضها وتسلح خلالها بالصبر "لا تغني عن لحظة تحرر واحدة، فحرية الإنسان غالية.. فما أبقوا لك نفسا في الحياة".
فرحة منقوصة
ويتابع: "مهما يمضي الأسير في سجون الاحتلال مدة سواء ثلاثين أو أربعين عاما في السجن، سيبقى ينتظر الحرية، عن نفسي دائما تكون فرحتي مبتورة ولا تأخذ طعمها الحقيقي لأن الاحتلال ينغصها".
وعرف عن النائب أبو طير مواقفه السياسية الصلبة، ودفاعه عن القدس، ومثل أحد رموز الشعب الفلسطيني الذين دفعوا سنوات عمرهم ثمنا لتلك المواقف.
ولا يخفي أبو طير أثر ما أحدثته السجون به، قائلًا: "أمضيت 37 عاما في السجون، أي أكثر من نصف عمري وأنا أطرق عامي السبعين، مررت بكثير من القهر والتحديات، لكنني أحتسب أجرها عند الله ولأجل مشروع دعوي حضاري يزداد عنفوانا".
ويشير إلى أن الأسرى في سجون الاحتلال يعيشون حالة مؤلمة وموجعة، ويتوقون إلى الحرية أمام ما يتعرضون له من جرائم ترتكبها إدارة السجون، مؤكدًا أن "الحرية هي مشعل الشعوب التي تريد العدل والإحسان، والحرية هي أساس كل شيء في حياة الإنسان".
وعن آخر أسر له، يشابه صوته المنبعث من سماعة الهاتف، نخلًا لم تهزه العواصف: "ما دمتَ قويًّا في نفسك وتحترم نفسك، فإنك تفرض احترامك على الناس سواء محبيك أو خصومك، وعليه غالبا ما يكون التعامل جدّي".
ويرد النائب على سؤال المشككين بدور النواب في خدمة القضية الفلسطينية بعد فوز حركة حماس عام 2006م، مارًّا في إجابته بتجربة أَسْره: "نحن النواب، دفعنا ضريبة الفوز غالية، بدءًا من اعتقالنا، ثم أُخرجنا من ديارنا، تشهد علينا السجون ونحن خارجون إليها جيئة وذهابا، في حين لا يملك غيرنا سوى الأموال والسفر.. فماذا قدموا هؤلاء؟".
ولا يفصل النائب أبو طير أسره عن حرب اجتثاث يشنها الاحتلال الإسرائيلي ضد حركة حماس بالضفة الغربية هدفها اجتثاث الحركة.
ورغم أحد عشر عاما من البعد، فإن أغلال الحنين للقدس تطوق قلبه: "القدس حلمي الأول والأخير، وفي دعائي دوما: الصلاة في المسجد الأقصى محررًا من الظالمين، فنحن أبناؤها ورجالها، وُلدنا فيها وتعلمنا في مدارسها".