أكثر من خمسة مليارات دولار أمريكي هي قيمة الواردات إلى كل من الضفة الغربية وقطاع غزة سنويا من الكيان الإسرائيلي بما يمثل ما يزيد على 90% من إجمالي الواردات بحسب إحصائيات رسمية متطابقة.
وبغض النظر عن إن كانت هذه المستوردات هي منتجات إسرائيلية أو تأتي عبر إسرائيل، فإن الاعتماد الكلي على الواردات الإسرائيلية للاقتصاد الفلسطيني يكبح جماح الإنتاج المحلي ويقيد آفاق تطويره.
ثمة واقع لا يقبل الشك تؤكده المعطيات المذكورة بأن حركة المقاطعة لإسرائيل التي ينظر إليها إسرائيليا على أنها خطر إستراتيجي قد تعاظمت قوتها في الخارج، بينما تعد انطلاقتها داخل الأراضي المحتلة ضعيفة ومحدودة جدا في وضع تكرس خلال سنوات.
ومقاطعة إسرائيل انطلقت بزخم واسع عام 2005 تحت اسم (BDS)، وهي اختصار للكلمات الثلاث: المقاطعة (Boycott) وسحب الاستثمارات (Divestment) وفرض العقوبات (Sanctions).
وهي تقوم على إستراتيجية سلمية قائمة على احترام القانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان، وتسعى لعزل إسرائيل محليا وعربيا ودوليا في شتى المجالات للضغط عليها بوصفها دولة احتلال لشعب وأرض آخرين.
أما المفهوم العام للمقاطعة (الاقتصادية) فهو إيقاف التبادل السلعي والخدماتي بشكل كلي أو جزئي مع الطرف المراد مقاطعته، بما يخدم مصالح وأهداف الطرف الداعي للمقاطعة، ويشمل التعامل الاقتصادي والخدماتي بكافة أشكاله.
وقد تنامت مؤخرًا وبشكل سريع الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها على مستويات متعددة في أنحاء العالم خاصة إعلان أعداد متزايدة من الشركات الكبرى أو البنوك العالمية عن سحب استثماراتها سواء من إسرائيل أو شركات داعمة لها.
كما خسرت بعض الشركات الإسرائيلية بعض عقودها في مجموعة من دول العالم نتيجة نشاط حركة المقاطعة وهو ما يظهر جليا في ردود الفعل الإسرائيلية العنيفة على نشاطات حركة المقاطعة.
من ذلك إقرار الكنيست الإسرائيلي عام 2011 ما يعرف بـ"قانون المقاطعة" الذي صادقت عليه المحكمة العليا الإسرائيلية في أبريل/نيسان 2015 ضد كل من يطالب بمقاطعة إسرائيل، ليتيح الملاحقة القانونية وطلب تعويضات من كل شخص يحمل الهوية الإسرائيلية ويدعو للمقاطعة بأي شكل كان.
كما يتضمن القانون فرض عقوبات اقتصادية كبيرة على المؤسسات التي تدعو للمقاطعة، إلى جانب شن حملة قمع مستمرة بحق الناشطين الفاعلين في الحملة وتصعيد العمل الاستخباري في ملاحقتهم.
وفيما امتدت حركة المقاطعة عالميا لتشمل مجالات ثقافية وسياسية وتعليمية وانضمام كثير من شخصيات المشاهير العالمية لها، فإن مستويات المقاطعة في الأراضي المحتلة نفسها ظلت ضئيلة جدا وموسمية للغاية رغم أنها جوهر القضية محل النزاع.
يعزو اقتصاديون التبعية الاقتصادية الحاصلة للأراضي المحتلة لإسرائيل إلى اتفاقية باريس الموقعة في أبريل/نيسان عام 1994 والتي جعلت إسرائيل تسيطر على كل شيء مما سمح لها بخنق الاقتصاد الفلسطيني بشكل كامل.
لكن في المقابل فإن التمرد الفلسطيني رسميا والأهم شعبيا على هذا الوضع لم يرقَ حتى إلى درجة المحاولة الجدية للخروج من دوامة التبعية، وبالتالي إهمال سلاح المقاطعة للاحتلال رغم أنه من أسلحة المقاومة السلمية وواجب وطني تراكمي مهم.
إن إسرائيل استهدفت من بين أهدافها إلى السيطرة الاقتصادية تحويل الشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت الاحتلال إلى سوق استهلاكي وأيدٍ عاملة رخيصة تساندها في تكريس الاحتلال وتعزيز عوامل بقائه.
ومن المؤسف القول إنها نجحت بدرجات عالية جدا في ذلك. ويكفي الإشارة إلى أنه بينما أكثر من 30% من المجتمع الفلسطيني هم من الشباب فإن معدل البطالة بينهم يقدر بأكثر من 33%، بواقع 22% في الضفة الغربية و50% في قطاع غزة وهو معدل يعد الأعلى في منطقة الشرق الأوسط.
إن تفعيل سلاح مقاطعة إسرائيل فلسطينيا من شأنه الدفع لتأسيس حقيقي لبناء اقتصاد وطني صلب قادر على المضي في مرحلة التحرر الوطني نحو بناء وطن متماسك وقوي، واستيعاب الأيدي العاملة والحد من معدلات البطالة القياسية.
لكن النجاح في كل ذلك يتطلب توفر الشروط الذاتية بدعم الاقتصاد الوطني وإيجاد بيئة استثمار أكثر إيجابية للمستثمرين والرقابة الجدية على جودة المنتجات المحلية لرفع جودتها ونضوج قرار رسمي بجدية فك التبعية الاقتصادية عن دولة الاحتلال.
كما يتطلب الأمر تفعيل الاتفاقيات الفلسطينية العربية المشتركة خاصة الموقعة مع كل من مصر والمملكة الأردنية ومحاولة إزالة العقبات التي تواجه هذه الاتفاقيات لإحلال المنتجات العربية كبديل للمنتجات الإسرائيلية.
يبقى أن المقاطعة للاحتلال لا يجب أن تكون مجرد ردة فعل، بل يجب أن تكون فعلا نابعا من ثقافة المقاومة وأن تتحول إلى نهج وثقافة وطنيين تنعكس أولا وأخيرا على سلوك المواطن وتبنيه المقاطعة كخيار مقاوم يصب في بوتقة النضال الفلسطيني في عملية تراكمية تجعل الاحتلال يخسر ولا تبقي الأراضي المحتلة سوقاً استهلاكية رخيصة له.