مع تصاعد موجات التطبيع الرسمي من بعض الدول العربية، بات السؤال عن الأسباب التي تدفعنا نحن الشعوب العربية لمقاومة هذا التطبيع مُلحًّا ويستحق النقاش. قد يبدو هذا السؤال في أزمان ماضية مستهجنا، إذ إن الأصل أن يسأل: "كيف نقاوم التطبيع؟"، وليس "لماذا يجب أن نقاومه؟"، ولكن وتيرة الهرولة الرسمية نحو إقامة علاقات مع الاحتلال، وما رافقها من حملات لتغيير الوعي الشعبي وشيطنة الفلسطينيين، يجعل من الضروري أن نعود أحيانا للبديهيات!
ثمة إجابات دينية وقومية ووطنية بديهية للإجابة عن هذا التساؤل، سنستعرضها في هذه السطور، ولكن النقاش سيتعدى ذلك للطروحات "العقلانية" أيضا، في زمن أصبحت فيه المسلمات محلا للجدل، بل محلا للازدراء أحيانا من مدعي "الواقعية" وجيوش الأنظمة الإلكترونية التي باتت تشوه معنى السياسة والواقعية في آن.
(1)
إن الموقع الطبيعي للعربي والمسلم، بل لكل إنسان يؤمن بالعدالة والحرية وحتى القانون الدولي، هو موقع الرفض للتطبيع مع الاحتلال، بما يعنيه من محاولة لجعل الاحتلال طبيعيا. فالاحتلال، بغض النظر عن اسمه وحيزه الجغرافي، هو فعل قائم على الظلم والإجرام والقتل، وهو نقيض للعدالة والحقوق الإنسانية، وهو أيضا في الحالة الصهيونية يكتسب حالة خاصة لأنه احتلال "إحلالي" كان وسيبقى مبنيا على طرد شعب من أرضه وإحلال مستوطنين غرباء بدلا من هذا الشعب، وهو بذلك لا يمكن أن يكون "طبيعيا".
وفق هذا المفهوم المجرد للاحتلال، وبتنزيله على الحالة الصهيونية، فإن التطبيع يعني في أحد تجلياته تحويل كل هذه الممارسات القائمة على الظلم "أمرا طبيعيا"، وهو يساوي الوقوف مع الإجرام، وهذا موقف لا يمكن أن يقبله عقل أو روح أي إنسان حر أو عربي أو مسلم أو مسيحي، كما لا يقبله كثيرون من يهود العالم.
وفي الحال هذه فإن السؤال المنطقي هنا ليس عن وجوب مقاومة التطبيع، بل عن التبريرات التي يمكن لأي عاقل أن يقبلها للقبول بالتماهي والقبول للاحتلال، وعن الأسباب التي تجعل الإنسان، أي إنسان، قادرا على الوقوف في معسكر قبول الإجرام بدلا من مقاومته، أو على الأقل رفضه.
(2)
منذ إنشاء دولة الاحتلال في فلسطين، تم الترويج أمريكيا وأوروبيا أن الهدف من إنشائها هو "حل المسألة اليهودية"، ولكن الهدف الحقيقي هو إنشاء دولة وظيفية متماهية مع المشروع الاستعماري في المنطقة العربية. بعد انتهاء الاستعمار المباشر للدول العربية كنتيجة للحرب العالمية الثانية، وتقدير الدول الاستعمارية أن الاستعمار المباشر لم يعد ممكنا وذو تكلفة باهظة، صار التوجه لديها لمنح الاستقلال للدول العربية، مع الحفاظ على استعمارها بشكل غير مباشر، عبر السيطرة على ثرواتها أو تكريسها لمصلحة الدول الكبرى.
بعد الاستقلال كان يمكن للاستعمار أن يحقق مصالحه من خلال اتفاقيات اقتصادية وسياسية وأمنية، وهو ما حصل بالفعل، حيث إن التركيز لدى الدول الاستعمارية كان منصبا على ضمان مصالحها في الحصول على طاقة رخيصة، وعلى ضمان التبعية السياسية للمستعمرات السابقة، وعلى اتفاقيات اقتصادية مجحفة. ولكن هذه المعادلة لا يمكن أن تستمر للأبد، ولذلك كان لا بد من وجود مانع بين الدول العربية وشعوبها وبين الحصول على الاستقلالية التامة.
هنا بالضبط يأتي دور دولة الاحتلال، حيث تلعب دورا أساسيا في منع قيام أي مشروع نهضوي للعرب، تارة عبر احتلال أراض عربية، وتارة أخرى عبر الحرب، وعندما تتوقف الحروب والاحتلال لأراضٍ جديدة، فإن دور الاحتلال هنا هو إذكاء الصراعات في المنطقة، والبقاء كتهديد أكبر لكل الدول العربية.
استخدم الاحتلال مثلا التنوع الديمغرافي في الدول العربية كإحدى أدوات العبث في استقرارها الداخلي، ومن الأمثلة على ذلك لبنان (دعم طوائف ضد طوائف أخرى) والعراق (المسألة الكردية) والسودان (انفصال الجنوب)، إضافة للاتهامات بمحاولات صهيونية للعب دور إذكاء الصراعات بين العرب والأمازيغ في دول شمال إفريقيا.
يحارب الاحتلال حتى مصالح دول عربية ترتبط معها بعلاقات دبلوماسية، ومنها على سبيل المثال مصر. تمنع اتفاقيات كامب ديفيد فرض سيادة كاملة للدولة المصرية في سيناء عبر تحديد عدد ونوع القوات الموجودة فيها، وهو ما جعل سيناء منطقة صراع دائم، في ظل غياب سيطرة الدولة الأمنية من جهة، وانعدام التنمية منذ كامب ديفيد.
يظهر الدور الإسرائيلي في الحرب على المصالح القومية لمصر أيضا عبر ملف مياه النيل و"سد النهضة"، حيث يتهم الاحتلال بدعم الحليف الإثيوبي، وهو ما يهدد شعب مصر بالعطش، وزراعتها بالفساد إذا تأثرت حصتها من المياه بفعل تعبئة السد.
ولكن الخطر الإسرائيلي الأكبر على مصر يتمثل في تحويلها من دولة قومية كبيرة إلى مجرد لاعب صغير في المنطقة، أولا لأن ارتباطها باتفاقية كامب ديفيد وضعها تحت إكراهات التبعية العسكرية للولايات المتحدة الداعم الأكبر للاحتلال، وثانيا لأن ضمان التفوق الاستراتيجي لدولة الاحتلال أدى، ضمن عوامل أخرى متعددة، إلى تراجع الدور الإقليمي لمصر.
ومن المعالم الأخرى للدور الإسرائيلي في إضعاف الدول العربية، هو أن الصراع مع الاحتلال كان دوما سببا في الانقسامات العربية. حصل هذا منذ انقسام الدول العربية بين محور "تقدمي" وآخر "رجعي" حسب مصطلحات تلك المرحلة، ثم أصبح انقساما بين دول "ممانعة" وأخرى "معتدلة"، كما أن هذا الانقسام حول الاحتلال والتعامل معه أصبح عنوانا رئيسا في الخلافات داخل الدول نفسها.
ولا ننسى هنا أن الاحتلال الإسرائيلي كان سببا في مشكلة اللجوء، وهي مشكلة لم تؤد فقط لطرد مئات الآلاف من الفلسطينيين من أراضيهم، بل أصبحت تمثل مشكلة داخلية في بعض الدول العربية، وصارت تستخدم، بحق أو بدون حق، كذريعة لمنع التنمية والاستقرار والديمقراطية والطائفية، وهكذا أصبح الفلسطيني/ الضحية يعاقب مرتين، مرة بطرده من بلاده وأخرى باتهامه بالمسؤولية عن مشكلات سببها الاحتلال الذي طرده وليس هو كضحية لهذا الاحتلال.
إن مقاومة التطبيع هي ضرورة لمنع هذا الدور التخريبي للاحتلال، وهو دور يؤثر في حياة كل عربي بشكل مباشر، وليس مجرد شعار ديني أو قومي أو وطني.
(3)
يقول مؤيدو التطبيع إنه يهدف لمواجهة "الخطر الإيراني"، والحقيقة أن هذا الادعاء هو عكس الحقيقة تماما. إن التطبيع سيجعل الدول التي تقيم علاقات مع الاحتلال عرضة لصراع مفتوح مع إيران، فالاحتلال لن يواجه إيران مباشرة، وإيران أيضا لن تواجهه مباشرة، ومن يتتبع سياسة إيران في إبعاد الحروب عن أراضيها سيدرك أن أي عمل عدائي إسرائيلي ضدها سيرد عليه في دول عربية ترتب بعلاقات مع الاحتلال، ولن تعدم إيران الحجة بالقول إنها تهاجم "المصالح الإسرائيلية" في الخليج، أو بذريعة التعاون الاستخباري بين الدول المطبعة ودولة الاحتلال كسبب لهجومها على هذه الدولة العربية أو تلك.
من جهة أخرى، سيعطي التطبيع إيران الفرصة لتثبيت روايتها عند مؤيديها في العالم العربي، باعتبارها الدولة الوحيدة المواجهة للولايات المتحدة والمقاومة للاحتلال، بينما تهرول الدول العربية للتطبيع مع الاحتلال، وهو ما سيساعدها في اختراق أكبر للشعوب العربية بينما يقول دعاة التطبيع إنهم يريدون مناهضته!
على من يريد مواجهة إيران حقيقة أن يفرغ روايتها من مضمونها، وألا يعرض أمن بلاده لتصبح ساحة لحرب بالوكالة بين طهران وتل أبيب، ولا سبيل لذلك إلا بوقف الهرولة نحو التطبيع.
(4)
يدرك الاحتلال أن أكبر عدو له هو الديمقراطية في الدول العربية، أولا لأن الديمقراطية ستأتي بأنظمة حكم ممثلة لشعوبها ومصالحهم، وهي شعوب ترفض الاحتلال وتشكل خطرا على مصالحه وتفوقه، وثانيا لأنها تريد تثبيت ادعاءاتها أمام الرأي العام العالمي بأنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، وهي دعاية تُكسبها الكثير من التعاطف في الغرب.
ولأنها تدرك خطورة الديمقراطية في الدول العربية، فإنها تدعم الاستبداد مباشرة أو عبر تأثيرها في سياسات الدول الغربية الكبرى، كما أنها تستخدم تطبيع بعض الأنظمة للتأثير في صانعي السياسة في أمريكا والغرب وإقناعهم بأهمية استمرار الأنظمة الديكتاتورية ومنع أي تحول ديمقراطي.
إن مقاومة التطبيع من هذه الزاوية هي مصلحة مباشرة لكل عربي يطمح بالتغيير والديمقراطية والكرامة. لا حريات حقيقية دون كرامة، ولا كرامة إلا بمقاومة هذا الاحتلال الذي يمثل دعمه ودعم رعاته في الغرب شريان حياة لكل الأنظمة المستبدة في المنطقة.