تُرى لماذا يحصل المخرج على أفضل الجوائز؟ سأخبركم بعد قليل.
لطالما نظر كثيرون لمادة التاريخ على أنها مادة "جافة"، خاصة لو تمتع مدرس المساق بما يُنَفّرُ الطلبة من فهم ما يستمعون له، ويؤكد عندهم ما لديهم من أحكام مسبقة.
لكن ثمة من يجعلك تقرأ التاريخ وكأنك أحد معاصريه أو صانعيه، فيحضر لك الحدث أو الشخصية بطريقة سلسة فتتسلل المعلومات لعقلك بطريقة (أسهل من كدا مفيش)، وتشعر بنشوة وأنت تشاهد أو تقرأ أو تسمع، لهذا الأسباب يستحق المخرج أفضل الجوائز.
هذا ما حدث مع الكاتب والروائي أدهم شرقاوي في روايته (عندما التقيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه)، التي تصنف ضمن الروايات التاريخية المصاغة بأسلوبٍ أدبيٍ شائقٍ، إذ ذكر قصة حياة عمر رضي الله عنه وكأنك تسمع من عمر، عن طريق حوار دار بينهما اتسمت الأسئلة بالروعة والإجابات بالصدق وفق تسلسل الأحداث زمنيًّا، فأفسح المجال لعمر رضي الله عنه للحديث عن دوره منذ اللحظة الأُولى لإسلامه مرورًا بموافقة القرآن له في قضايا مثل أسرى بدر والخمر والحجاب والمنافقين، وعن موقفه من بيعة أبي بكر وما كان من الأنصار والمهاجرين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، زمن حرب الردة، وعن طريقة اختيار أبو بكر رضي الله عنه، له وسر تسميته بأمير المؤمنين، وعن فراسته في قضايا كثيرة، وعن الابن الذي جاءه يشكو من أبيه بأن سماه "جعر" ولم يحسن تعليمه، فعاقب عمرُ رضي الله عنه أباه.
تعرفتُ إلى فلسفة عمر رضي الله عنه في تقسيم الولايات والنظام الإداري والدواوين، وأن ذلك جاء لتنظيم العمل، وأنه أول من فعَّل قانون من أين لك هذا؟ ورفضه تعيين أحد أبناء عائلته في مناصب الدولة، وأنه يختار ولاته حسب الكفاءة العملية والأمانة والقوة والرحمة بالناس، وأنه أبطل عقد والي حين عرف منه أنه لم يُقبّلُ أحدًا من أولاده العشرة، قائلًا: من لم يكن رحيمًا بأولاده كيف يكون رحيمًا بالناس؟ وأعجبتني فلسفة عمر رضي الله عنه أنه لم يولِ أهل المدر على أهل الوبر والعكس، لأن على الحاكم أن يفقه طبائع الرعية.
لم يفُت الشرقاوي سؤال الفاروق عن تعطيل حد السرقة عام الرمادة، حيث قال عمر: إن الناس قد أساؤوا فهم ما فعلته لأنهم خلطوا بين المعنى الدقيق للسرقة والخيانة، فالرسول عليه الصلاة والسلام "قال: لا قطع في الخيانة ولا قطع في ثمر ولا كثر ولا قطع فيما فيه شبهة ولا قطع في شيء مسروق من مكان هو له فيه نصيب"، كما ويجب توفر مواصفات في السارق والمسروق وفي الموضوع المسروق منه وفي صفاته.
علمت من اللقاء أن المرأة التي قالت: أيعطينا الله وتمنعنا أنت يا عمر؟ حينما كان يحدث الناس عن غلاء المهور، هي "الشفاء بنت عبد الله العدوية القرشية" هي ذاتها أول من تولت وظيفة الحسبة في الإسلام، وأنها كانت تجلس في مجالس أبي بكر وعمر يشاورها ويأخذ برأيها، كما راق لي إنصافه لشابٍ يشرب الخمر في خِلافه مع أبي موسى الأشعري، والقطبي الذي نافقه عمرو بن العاص، ورده هدية جاءت لزوجته من زوجة ملك الروم.
تعلمت من اللقاء عن تفاصيل أفعال عمر مثل إجلائه ليهود خيبر، وكتابة التاريخ الهجري، وإعادة مقام إبراهيم لمكانه، وجمع المسلمين على إمام واحد في التراويح، وتوسعة المسجد النبوي والعهدة العمرية.
انتهى اللقاء مع عمر ولم تنتهِ العظات والعبر.
رحمك الله يا عمر فما أحوجنا الآن إلى فلسفتك: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟