قبل الخوض في غمار المقال، هذه السطور لا تتحدث عن الانتخابات التشريعية والرئاسية، وإنما عن الانتخابات الداخلية التي تنظمها حركة حماس في هذه الأيام، وفي أقاليمها الثلاثة على نسق متزامن، تخوض حماس انتخاباتها في مرحلة لو ترك أمر تعريفها لكثير من الأحزاب الحاكمة لوصفتها باستثنائية تستوجب إعلان حالة الطوارئ، وعليه تأجيل الانتخابات، فأمام الحركة تحديات كبيرة مقبلة عليها لا بد فيها من وجود حالة استقرار وقيادة ممسكة بزمام الأمور لتمضي نحو المشاريع الوطنية الكبيرة المطروحة من مصالحة، وانتخابات عامة، وإعادة بناء الجسم القيادي الوطني.
في مشهد قل نظيره يعكس حضاريةً ووعيًا كبيرًا جدًا توجه عشرات الآلاف من أصحاب حق الاقتراع نحو الصناديق، وفي ساعة واحدة، لتستقبلهم لجان انتخابية عالية الكفاءة، ويجلس كل شخص على كرسيه في قاعة الانتظار هناك حيث يجد المنشورات المعلقة من لجنة الانتخابات توضح للجميع آلية الانتخاب، وتذكر الجميع بضرورة ممارسة حقه في الاقتراع وانتخاب كامل أعضاء مجلس الشورى المحلي الذي يرى فيه الكفاءة، ويضع فيهم ثقته، ثم يتقدم ما مجموعه 15 – 20 أخًا نحو قاعة ثانية مستترة عن الأولى، حيث تتوزع فيها مقاعد فردية متباعدة. في تلك القاعة تتحقق اللجنة المختصة من بيانات المنتخب بواسطة بطاقته الشخصية، وبعد التأكد من تطابق الاسم مع البيانات يتم تسليمه ورقة اشتملت على كل أسماء من لهم حق الترشح في منطقته، وورقة أخرى فيها خانات بالعدد المطلوب انتخابه، ثم يصطحبه أحد المرافقين للجلوس في مقعده ويأخذ هناك كل الوقت لانتخاب مرشحيه.
بعد الانتهاء يصطحبه أحد المرافقين عائدا نحو لجنة قاعة الاقتراع، ويضع الورقة في الصندوق ثم يسلم الكشف قبل خروجه، وبعدها يتوجه نحو باب غير الذي دخل منه ويغادر. هكذا وبكل سلاسة وحضارية سارت الأمور. الانتخابات اليوم باتت في مراحل متقدمة نحو الوصول إلى انتخاب الجسم القيادي الأعلى، وهو اللجنة التنفيذية.
حماس تفاجئ الجميع بالتزامها موعدَ انتخاباتها الداخلية، وعدم زحزحته ولو ليوم واحد، ولهذا الفعل مدلولات كبيرة تميزت فيها الحركة الخضراء عن غيرها من أقرانها، سواء كان ذلك فصائل فلسطينية أو أحزابا عربية صغيرة كانت أو كبيرة على امتداد الوطن العربي بأسره.
أولًا: تؤكد الحركة الخضراء في ذهابها لانتخاباتها الداخلية مبدأ التداول القيادي، ولعل ما رشح حتى هذه اللحظة من نتائج على الصعيد الذي أجريت فيه انتخابات يشير إلى وجود نسبة من ثبات قيادات ترى فيها القاعدة محل ثقة لمواصلة المسير، ونسبة أخرى من دماء جديدة شابة قد تم ضخها في الصف القيادي.
ثانيا: إن حماس لم تخشَ التغيير يوما بل إن في إجراء الانتخابات الداخلية ما يدلل على ثقة الحركة بنفسها وأن لديها مخزونا من الكفاءات، ففي أي يد وقعت الأمانة فهي على ثقة أنهم لن يعجزوا عن إدارة أي مرحلة باقتدار.
ثالثا: إن مضي حماس نحو انتخاباتها الداخلية أكبر رد على الرهان القديم المتجدد من كثير من الجهات أن ثمة شروخا وإرهاصات انشقاق داخل الصف الأخضر، وأنه لا يوجد تفاهم بين قيادة هذا الإقليم وذاك الإقليم، إذ لو كان الأمر كذلك لكان الأجدر بالحركة عدم خوض الانتخابات.
لو استعرضنا الدورات الانتخابية التي مارستها حماس في العقود الثلاثة من نشأتها لوجدناها جميعا قد تزامنت مع ظروف قاهرة وخطرة، سواء كان ذلك على الصعيد الفلسطيني الداخلي أو على صعيد المواجهة مع الاحتلال، فقد خاضت الحركة انتخاباتها وهي على مشارف حرب مع الاحتلال، كما خاضتها وهي تقطف ثمار انتصار في حرب مع الاحتلال، فلم تؤجَّل الانتخابات في الأولى بذريعة التفرغ لإدارة المرحلة، ولم تؤجَّل الانتخابات في الثانية استئثارا بحلاوة النصر.