في غمرة الآثار المترتبة على جائحة كورونا، لم نلتفت بما فيه الكفاية إلى وقائع المؤتمر الصهيوني العالمي الـ38 الذي عقد أول مرة بصورة افتراضية في القدس من 20 حتى 22 تشرين الأول (أكتوبر) 2020، ولم تدلّ هذه الوقائع بالأساس على أن ما يسمى "معسكر الوسط - اليسار" ما عاد ذا صلةٍ بالواقع السياسي الإسرائيلي الراهن فحسب، إنما أيضًا على اتجاه المشروع الصهيوني في فلسطين التاريخية. ووفقًا لما انعكس في مجريات ذلك المؤتمر، كما في المؤتمر الذي سبقه (2015)، تمثّل هذا الجوهر في توكيد أن هناك "شعبًا يهوديًّا واحدًا ودولة يهودية واحدة"، وأنه "يجب العمل معًا لتوحيد الشعب اليهودي وضمان أمن الدولة اليهودية"، كما تمثل في تعزيز السيطرة الكولونيالية في الأراضي المحتلة منذ 1967 بالاستيطان والسيطرة على الأرض، تحقيقًا لشعار "أرض أكثر، عرب أقل"، ويعد المؤتمر الصهيوني العالمي الهيئة الأعلى، من حيث إقرار أيديولوجيا (الهستدروت) الصهيونية العالمية وسياستها العامة، ويعقد مرة كل خمسة أعوام بالقدس، في حضور أكثر من ألفي ناشط صهيوني مما يزيد على 30 دولة، إضافة إلى مندوبي جميع الأحزاب الإسرائيلية الصهيونية، ومندوبي سائر المنظمات الصهيونية العالمية.
وأعيد التشديد، في المؤتمر، على الوسائل المطلوبة للصهيونية سبيلًا لانتشارها، كما اتفق عليها منذ قرارات المؤتمر الصهيوني الأول في بازل (سويسرا) عام 1897، بزعامة مؤسس هذه الحركة ثيودور هرتزل، وعلاوة على توكيد أن هدف الصهيونية هو "إقامة وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين، أشير مرة أخرى إلى أن ذلك يتحقق بالوسائل التالية: تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين؛ وتنظيم اليهود (في العالم) وربطهم بالحركة الصهيونية؛ واتخاذ السبل والتدابير للحصول على تأييد دول العالم لهذا الهدف الصهيوني (بقصد إعطائه شرعية دولية)، ويتسق هذا مع ما تقوم به (الهستدروت) الصهيونية العالمية من نشاطاتٍ في أوساط جميع اليهود بالعالم، وترمي أساسًا إلى ترسيخ أن (إسرائيل) هي جوهر هويتهم، وجوهر أمنهم "لأنه من دون (إسرائيل) قوية لن يكون أمن لليهود في أي نقطة في العالم".
أمّا جديد المؤتمر الـ38 فيكمن في نزعة اليمين الجديد، الآخذة بالتفاقم في الأعوام الأخيرة، نحو التطهّر من كل من يخالفه الرأي، في سلطات دولة الاحتلال، أو في قيادة مؤسسات الهستدروت الصهيونية العالمية، لا سيما الكيرن كييمت (الصندوق القومي لإسرائيل)، دفعًا لشرعنة غاية ألا يقف "انتداب" هذا الصندوق، فيما يرتبط بنهب الأرض الفلسطينية، عند "الخط الأخضر"، كما الحال من الناحية الرسمية المُعلنة، بحيث يمتد إلى أراضي 1967 كذلك، وقد نجح في ذلك أول مرة.
وكي لا يُحسن الظنّ في مقاربة من يخالف اليمين الرأي، ينبغي القول إن هذا الخلاف يطال بصورة رئيسة مجالات السياسة الداخلية، أما بخصوص جوهر الفكر الصهيوني حيال قضية فلسطين فمن الواضح أن اليمين ينجح في أن يهيمن على حاضر السياسة الإسرائيلية الرسمية، بالاستناد إلى الماضي الصهيوني، تحديدًا الماضي الذي كان جليًّا فيه أن احتلال الأرض (أرض فلسطين التاريخية) وتطهيرها عرقيًّا لم يكن شعارًا للصهيونية التي وُصفت بأنها يمينية وحسب، وإنما كان أيضًا شعارًا للصهيونية التي وُصفت بأنها يسارية، وادّعت الاعتدال، ولإثبات ذلك لا يسع المرء سوى رصد الوقائع وتتبعها للوقوف على علاقتها بمآلات الوقت الحالي.
وإن كان ممكنًا تحوير مقولة فريدريك شيلر، يمكن القول إن هذه "الصهيونية اليسارية" أنجزت المهمة الموكلة إليها، ولذا يمكنها أن تتنحّى جانبًا، وسبق أن نبهنا مرّات يصعب حصرها إلى أن أهمية هذه الصهيونية، من عدة نواح ودلالات، كانت تفوق كثيرًا أهمية الصهيونية العمومية، واليمينية، ذلك أنها وفرت درعًا أيديولوجيًّا بطرحها الصهيونية حركة اشتراكية تتبنّى المساواة، وتتطلع بشدة إلى التعاون والسلام مع "السكان العرب".