في يونيو/ حزيران 2017 فاجأ رئيس السلطة محمود عباس المجتمع والفصائل بإصدار قرار قانون حمل رقم (16) بشأن الجرائم الإلكترونية، ضاربًا بعرض الحائط جميع المواد الدستورية التي تؤكد وجوب مرور القانون على المجلس التشريعي، ومناقشته مع مؤسسات المجتمع المحلي والمعنيين فيه، حيث فرض عبره "سيف الرقيب" على كل مَنْ يعارضه الرأي، فما مصير هذا القرار في ظل "مرسوم الحريات"؟
و"مرسوم الحريات" أصدره عباس السبت الفائت بشأن تعزيز الحريات العامة، حيث نص على حظر الملاحقة والاحتجاز والتوقيف والاعتقال وكل أنواع المساءلة خارج أحكام القانون لأسباب تتعلق بحرية الرأي والانتماء السياسي، دون إلغاء عدد من "القرارات بقانون".
فالقانون الذي زج بالعشرات من المعارضين سياسيا لسياسة عباس وسلطته على اختلاف ألوانهم السياسية في السجون، بتهمة "إثارة النعرات" وغيرها من التهم الملفقة التي أساسها "اعتقال على خلفية الرأي"، يعكّر صفو الأجواء الوطنية في الضفة الغربية، كما يؤكد ظافر صعايدة المحامي من تجمع "محامون من أجل العدالة".
وقد وجهت منظمات حقوق الإنسان انتقادات شديدة "للقرار" وعدّته تعديا على الحق في التعبير وحرية الرأي المكفول بموجب القانون الأساسي الفلسطيني المعدل، إذ تنصّ المادة (19) على أنه "لا مساس بحرية الرأي، ولكل إنسان الحق في التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غير ذلك من وسائل التعبير..".
ولفت صعايدة إلى أن قانون "الجرائم الإلكترونية" كان البداية التي عبرت عن إصرار السلطة التنفيذية على إطلاق صفة الشرعية والقانونية بشأن الاعتقالات على خلفية ممارسة حرية الرأي والتعبير، خاصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت أساسية في حياة المواطن.
وقال إنه منذ صدور قانون الجرائم حدثت الكثير من حالات الاعتقال، وصلت لقرابة عشر حالات يوميا وتحويل المعتقلين لسجون المخابرات والأمن الوقائي.
والاعتقالات، وفقا لصعايدة، لم تقتصر على أبناء حركتي حماس والجهاد الإسلامي بل شملت أيضا أشخاصا معارضين من فتح وناشطين نقابيين في الحراكات الشعبية التي نشطت مؤخرا في الضفة على خلفية مطالب نقابية أو اجتماعية أو دعوات للإصلاح وشملت محامين وصحفيين وغيرهم من قادة الرأي.
تعسف بحق المعارضين
ولفت إلى أن العقوبات كانت تتراوح بين توقيف احترازي 48 ساعة و40 يوما (أكبر مدة اعتقال للصحفي عبد الرحمن ظاهر)، فكانت مدة الاعتقال حسب تفاعل الرأي العام مع الشخصية التي تتعرض للاعتقال.
لكن عدم دستورية القانون جعل قرابة 90% من ملفات الاتهام يتم حفظها في النيابة العامة وعدم إحالتها للمحاكم، يضيف صعايدة: "لكن الأجهزة الأمنية كانت تمارس التعسف بحق المعارضين من خلال استغلال فترة التوقيف الاحترازية كعقوبة للشخص لإدراكها أنه حال تحويله للمحاكمة سيتم الحكم ببراءته، لأن التعبير عن الرأي متاح ضمن القانون الأساسي الفلسطيني".
وتابع "كان آخر تلك المحاكمات ما حدث مع الناشط الحقوقي جاسر جاسر في يونيو 2020 الذي حكمت عليه محكمة صلح رام الله بالسجن 3 أشهر بتهمة نقل أخبار مهينة، وأطلق سراحه لاحقا بكفالة".
جدير بالذكر أن جاسر مدافع عن حقوق الإنسان وعضو في الائتلاف المطلبي الحضاري من أجل قطاع اتصالات فلسطيني عادل، اعتقلته أجهزة أمن السلطة بسبب منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي دافع فيها عن الحقوق الاقتصادية للفلسطينيين.
واعتبر أن قانون "الجرائم الالكترونية" مثله مثل مئات القوانين التي أصدرها عباس متعللا بـ"الضرورة القاهرة" بعد حله المجلس التشريعي، وكان من المفترض صدورها من المجلس كجهة مختصة.
وأضاف صعايدة أنه حتى في حال تغييب المجلس التشريعي لا يجوز بأي حال من الأحوال للرئيس إصدار قوانين تخالف القانون الأساسي وتتجاوز الحقوق الدستورية للمواطن وتقيد حريته، لذلك فهي قوانين غير دستورية.
ورأى أن القرارات بقانون التي أصدرها عباس "سياسية أكثر من كونها قانونية".
وعدّ إصدار عباس "مرسوم الحريات" إقرارا واضحا وصريحا بأن المرحلة السابقة كانت كلها اعتقالات سياسية بادعاءات جنائية كـ"جمع وتلقي أموال" و"إثارة نعرات عنصرية" وغيرها، إلا أنه أشار إلى أن المرسوم بشكل عام خطوة إيجابية شرط الالتزام به، وأنه لا يلغي ضرورة المحاسبة على الاعتقالات السياسية في الفترة الماضية وسياسات القمع.
اعتداءات متواصلة
ونبه صعايدة إلى أن الاعتداءات على المواطنين لم تتوقف في محافظات الضفة، حيث تعرض المواطن محمود الكعبي من بلاطة للاعتداء من جهاز الأمن الوقائي الأحد الماضي، بعد استدعائه على خلفية قانون "الجرائم الإلكترونية".
وبين أن استدعاء الكعبي كان على خلفية دفاعه عن الأسير مروان البرغوثي في منشور عبر "فيسبوك"، مؤكدا أن هذه الحالة تؤكد أن "مرسوم الحريات" يجب أن يترافق مع ممارسة حقوقية على الأرض.
وشدد على أن ذلك يوجب على عباس الإيعاز بإلغاء "القرارات بقانون" غير الدستورية كـ"قانون الجرائم الإلكترونية" لإتاحة تطبيق "مرسوم الحريات" واقعا، ومعالجة ملفات الاعتقال السياسي المعلقة منذ سنوات طويلة، والمدنيين الذين تمت محاكمتهم في محكمة عسكرية بشكل غير قانوني.
في حين رأى عضو لجنة الحريات في الضفة الغربية خليل عساف أنه كان ينبغي التوافق فصائليا على إلغاء كل القوانين غير الدستورية كـ"قانون الجرائم الإلكترونية" قبيل أي انتخابات مقبلة "خاصة أن قانون الجرائم فيه الكثير من المواد المزعجة التي يمكن للأجهزة الأمنية تفسيرها حسب أهوائها".
وأضاف عساف لـ"فلسطين" أنه طالما تم تجاوز هذا الأمر والتوافق على إجراء انتخابات فإن المجلس التشريعي القادم له الصلاحية بمناقشة أو إلغاء أو تعديل تلك القوانين غير الدستورية.
ورأى ضرورة إعادة الحقوق لكل الذين عانوا الاعتقال السياسي وفقا للمادة 31 من القانون الأساسي، التي تنص على أن أي شخص تعرض لاعتقال أو تصرف غير قانوني يمكنه المطالبة بحقه في أي وقت "فالحق لا يسقط بالتقادم، ولكل شخص تعرض لشيء غير قانوني حتى لو بعد 10 سنين حق جزائي ومدني ممن أساء له، فتنبغي محاسبة الأجهزة الأمنية على تصرفاتها في الفترة السابقة ضد المواطنين".
وعد تهيئة الأجواء للانتخابات القادمة أمرا مهما وضروريا وصولا إلى تشكيل حكومة تمثل كل الفلسطينيين وتنهي الانقسام وملاحقة الآخرين على خلفية الرأي، مؤكدا أن ذلك لا يتأتى إلا بترجمة "مرسوم الحريات" على أرض الواقع، وإنهاء ممارسة الاعتداء على القانون والمواطن.