فلسطين أون لاين

هل انتهت أوسلو؟

ظلّ الحديث يتجدد عن انتهاء اتفاقية أوسلو، منذ عام 2000، أي بعد انتهاء المرحلة الانتقالية لاتفاقية أوسلو، وفشل مفاوضات "كامب ديفيد" بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس وزراء الاحتلال حينها إيهود باراك، برعاية الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، وانفجار انتفاضة المسجد الأقصى، وإنهاء الاحتلال القسري لحرمة المناطق "أ" المنصوص عليها في اتفاقية أوسلو.

بحسب تعبيرات الراحل صائب عريقات، مسؤول ملف المفاوضات مع الاحتلال، إنّ اتفاقية أوسلو "داستها جنازير الدبابات الإسرائيلية"، وهو تعبير يستخدمه كثيرون، مرة للقول إنّ هذه الاتفاقية لم تعد قائمة، ومرة للقول إنه لم يعد مقبولًا استمرار الفلسطينيين في الالتزام بها في حين يبطل الاحتلال ما يشاء منها من التزاماته.

بمرور الوقت أخذت الحجج لانتهاء هذه الاتفاقية تتضاعف، منها الاعتراف بفلسطين دولة مراقبة في الأمم المتحدة، وانضمامها استنادًا إلى ذلك إلى العديد من المعاهدات الدولية، من أبرزها ميثاق روما المنشئ لمحكمة الجنايات الدولية، ما يحيلها إلى دولة تحت الاحتلال، ويبطل صفة سلطة الحكم الذاتي الانتقالية.

كل هذا الكلام عن انتهاء الاتفاقية هذر لا معنى له، إن لم يكن له هدف واضح، تنبثق منه خطة عمل واضحة، للخروج الحقيقي والفعلي من تداعيات الاتفاقية وبُناها التي أوجدتها على الأرض ومساراتها التي فرضتها على الفلسطينيين، أما سوى ذلك فهو يراوح بين الهذر وتسويغ سياسات تفضي إلى تكريس تداعيات "أوسلو"، ولكن تحت عنوان "انتهاء أوسلو"!

يجري الاحتجاج الآن بانتهاء اتفاقية أوسلو لتسويغ المشاركة في الانتخابات الفلسطينية القادمة وما قد ينبثق منها من حكومة فلسطينية، ليظهر للسجال تعبيران بينهما فرق واضح على المستوى النظري: الأول يقول إن مشاركته في الانتخابات "غير مسقوفة بأوسلو"، ونظريًّا -بغض النظر عن واقعية هذا الادعاء- يمكن القول إن صاحب هذا التعبير يقصد أنه لن يلتزم بإكراهات "أوسلو" وتداعياتها ونتائجها القوية على الأرض، وسيعمل بمشاركته على إفساح المجال لبرنامجه لإنهاء تلك الإكراهات والتداعيات والنتائج، بمعنى أنه يملك رؤية لإنهاء "أوسلو"، أو التخفيف من آثارها على طريق الخروج منها، لكن التعبير الآخر الذي يسوغ مشاركته بأن "أوسلو" قد انتهت بالفعل هو تعبير مراوغ، يهدف إلى الإقناع، ويخلو من البرهان، وفي حال استخدامه إلى جانب التعبير الأول إنه بمراوغته يبطل ادعاء توظيف المشاركة في السلطة للخروج من "أوسلو".

الفرق بينهما أنّ الأوّل يقرّ باستمرار "أوسلو" على الأرض، ولكنه لن يلتزم بها، أما الثاني فينكر وجودها أصلًا، وهو في هذه الحالة إمّا أنّه يتعمد المغالطة، أو أنه ذاهل عن الواقع، وفي الحالتين لا يمكن لمن كان هذا حاله ادعاء امتلاك الرؤية والإرادة للخروج من "أوسلو".

"أوسلو" المقصودة في كلامنا تعبير رمزي عن وقائع ماثلة على الأرض، بقوة حاكمة لهذه الأرض، بغض النظر عن الوصف القانوني لحال اتفاقية أوسلو، أي أننا نتعامل مع واقع حال، لا مع ترسيمات قانونية، وأما الدعاوى القانونية بشأن انتهاء الاتفاقية فينبغي اتخاذها ذريعة في سياق خطة عمل لتغيير المسار برمّته، لا الدخول في المسار بما يثبّت تلك الوقائع أكثر، وأمّا هذه الوقائع فيمكن وصفها، أو تسميتها، بأيّ شيء، إن كان التعبير الرمزي عنها بـ"أوسلو" سيدخلنا في سجال لا معنى له عن انتهاء الاتفاقية من عدمه، وإلا فإنّ "أوسلو" كانت إعلان مبادئ، تبعتها العديد من الاتفاقيات والتفاهمات التفصيلية الحاكمة لوجود السلطة ووظيفتها وعلاقتها بالاحتلال، وقد تجاوز الفلسطينيون منذ البداية الكثير من التفاهمات الشكلية بشأن هيكلية السلطة، دون أن يكون للاحتلال مشكلة مع ذلك، ما دامت التفاهمات الجوهرية حاكمة للسلطة وجودًا ووظيفة.

إضافة إلى استمرار حاكمية التفاهمات الاقتصادية والأمنية، إنّ الوعود السياسية ضمن المسار نفسه انحدرت إلى ما هو أسوأ مما كانت تعد به اتفاقية أوسلو. وبالنظر إلى سياسات الاحتلال التي يكرّس بها الوقائع ثم يجعلها مرجعية لأيّ تفاوض مع الفلسطينيين، الذين يضطرون بدورهم، بحكم محدودية الاختيارات داخل المسار، إلى التسليم ببعض تلك الوقائع؛ نجد أننا أمام حالة هي أسوأ من أن توصف بـ"أوسلو"، فالقول إن "أوسلو" انتهت لا ينبغي أن يفيد إلا أننا إزاء ما هو أسوأ، لا من جهة سياسات الاحتلال فحسب، بل أيضًا من جهة القيود التي تشد السلطة إلى وظيفتها التي اشتُرط وجودها بها، وتجعلها غير قادرة على التصرف إلا بالتفاهم التفصيلي المستمر مع الاحتلال والالتزام بالكثير من اشتراطاته، وإلا حوّل حياة الفلسطينيين إلى جحيم أو سلسلة من العقبات القاهرة.

لقد خاض الفلسطينيون انتخابات عام 2006، بمشاركة فصائل أساسية معارضة لاتفاقية أوسلو، وكان شعار دوس الدبابات الإسرائيلية لتلك الاتفاقية حاضرًا، إلى جانب شعارات ملحمية، من قبيل "شركاء في الدم شركاء في القرار"، وكان الفلسطينيون قد خرجوا لتوهم من انتفاضة الأقصى، لكن تلك المشاركة المسبوقة بوحدة الدم لم تنهِ مفاعيل "أوسلو" على الأرض، وإنما أفضت إلى انقسام، عزز من ارتباط السلطة بوظيفتها.

إنّ القضية في الوقائع، وفي بنية السلطة ووظيفتها والإكراهات التي تحيط بها وتهيمن عليها، وليست في تسمية تلك الوقائع؛ إن كان ينطبق عليها اسم "أوسلو" أم لا، فإن كانت "أوسلو" قد انتهت بأي اعتبار كان، فإنّ تلك الوقائع لم تنتهِ، ما يجعل من الواجب الكفّ عن المخاتلة والأساليب الإقناعية، والانشغال بدلًا من ذلك في تقديم أطروحات إستراتيجية للخروج من هيمنة تلك الوقائع وإبطالها، وفي حال كانت الانتخابات سبيلًا مقترحًا في إطار خطة عمل للخروج من هيمنة تلك الوقائع، فهي تستوجب طرحًا واضحًا وشفافًا يخلو من التذاكي والتنكّر للواقع.