فلسطين أون لاين

مريد البرغوثي.. عاش في "3 قارات" وبقي الوطن في قلبه

...
غزة/ هدى الدلو:

"من يفقد جغرافيته الخاصة، يتشبث بتاريخه الخاص، ومن يخسر المكان، يتشبث بالزمان، إن المشرد لا يتعلق بالأماكن"، كان هذا آخر ما كتبه الشاعر الفلسطيني مُريد البرغوثي على صفحته الشخصية في موقع التواصل الاجتماعي.

البرغوثي الذي توفي في 14 فبراير/ شباط عن عمر 77 عاما، وصفته الهيئة العامة للشباب والثقافة في غزة في نعيه بأنه "أحد رموز الحركة الثقافية الفلسطينية"، مشيرة إلى أن "ما تركه من إرث ثقافي سيبقى خالدًا في ذاكرة الأجيال يحكي عن فلسطين وتاريخها العريق".

في قرية دير غسانة قرب رام الله في الضفة الغربية ولد البرغوثي عام 1944، وتلقى تعليمه في مدرسة رام الله الثانوية، سافر إلى مصر عام 1963 حيث التحق بجامعة القاهرة وتخرج في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها عام 1967، وحرمه الاحتلال العودة إلى الضفة الغربية آنذاك.

كتب الراحل 12 ديوانا شعريا، وكتابين نثريين هما "رأيت رام الله"، و"ولدت هناك، ولدت هنا"، وأول دواوينه كان "الطوفان وإعادة التكوين" عام 1972، وآخرها "استيقظ كي ترى الحلم" عام 2018، وحصل الراحل على جائزة فلسطين في الشعر عام 2000.

وكتب كتابه ذائع الصيت "رأيت رام الله" لعدم تمكنه من العودة إلى مدينته مسقط رأسه، إلا بعد 30 سنة من التنقل بين المنافي العربية والأوروبية، وهي التجربة التي دونها في سيرته الروائية، وكتب "لا غائب يعود كاملاً، لا شيء يُستعاد كما هو".

وحصلت رواية "رأيت رام الله" على جائزة نجيب محفوظ للإبداع الأدبي عام 1997. وتناولت سيرة البرغوثي الذاتية التي مثلت رحلة العودة إلى وطنه، وترجمت الكاتبة المصرية أهداف سويف "رأيت رام الله" إلى اللغة الإنجليزية.

في حديث مع صحيفة "فلسطين"، يقول الشاعر ليث البرغوثي الذي رثاه بجملة واحدة "ارقد بسلامٍ يا آخر الأقلام التي شابت ولم ترَ القدس محررة"، إن الراحل كان "من الذين يخافون الغربة والموت فيها، ولومست تلك الرهبة في أغلب كتاباته، وخاصة في كتابه رأيت رام الله".

ويستذكر أنه عاد إلى رام الله في أواخر الثمانينيات وأصيب بحالة اكتئاب سياسية واجتماعية وأدبية، واكتشف أن الطريق ليس معبدًا بالورود، وقد آلمه رؤية علم الاحتلال مرفوعًا في بلاده، وقرر عدم العودة إلى مسقط رأسه إلا وبلاده محررة.

لا يقيم في الأماكن وإنما يقيم في الأوقات، فكان مهددا دائمًا بترك الأماكن، يقول ليث إن مُريد كان من الرعيل الأول والنخب الإبداعية، ولديه الكثير من الأصدقاء التي كونها بفعل تجواله في كثير من البلدان التي جاب فيها بثقافته ومعلوماته وهويته الأدبية كمحمود درويش وغسان كنفاني وغيرهما، وذكرت بعض المواقع أنه سكن في نحو 45 منزلًا، وعاش في ثلاث قارات ولم يكن ذلك باختياره.

وهو الذي اشتاق إلى زيتون فلسطين، وكان يرفض أن يشتري زيت الزيتون في أثناء وجوده في القاهرة "كنت أرى أمي وأبي يكيلون الزيت بالجرة أو التنكة، ولكن هنا يكال باللتر والكيلو".

سجلت لمُريد الكثير من المواقف الوطنية، فهو الذي نبذ اتفاق أوسلو، والأمور التي تتعلق بالمهادنة والمسايسة الركيكة مع الاحتلال، وتطبيع الدول الخليجية، فكتب عنها "زرعتم أوسلو فنبتت في كل العواصم العربية".

مُريد ورضوى

على مدرج جامعة القاهرة، كان اللقاء برضوى، حين سمعت أشعاره التي يلقيها لأصدقائه لتخترق كلماته قلبها مباشرة، فحملها بها إلى عالم آخر، وكان ذلك بداية لزواج استمر 45 عامًا، وكانت وقتها تكتب الشعر، ولكن بعد أن سمعت قصائده يقال إنها تركت الشعر لكونه أحق بأهله وذويه.

ولفت إلى أن البرغوثي قال في يوم زواجه من رضوى "وضحكتها صارت بيتي" حيث جمع بينهما حب عظيم.

مرت علاقة رضوى ومريد بعدد من المراحل والمواقف المهمة، لعل كان أبرزها وأصعبها على كليهما حينما أبعد البرغوثي عن مصر في فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات بسبب اعتراضه على زيارة السادات إلى (إسرائيل)، وظل ممنوعًا من دخول مصر لمدة 17 عامًا وهو ما أحدث تشتتًا كبيرًا لأسرتها، ولم تمل على الرغم من البعد والصعوبات، بل ظلت متماسكة من أجله.

وبعد مرض رضوى بورم في الدماغ الذي كان يخطف ضحكاتها، كان يقول مريد: "عودي يا ضحكاتها عودي"، ولكن في النهاية تمكن من هزيمتها، وبعد رحيلها لن يتمكن الموت أن يفرق بينهما.

إصداراته

وفي 2009 صدرت لمريد رواية "وُلدت هناك، ولدت هنا" التي كانت امتدادًا لروايته الأولى، وفيها يصف رحلة عودته مع ابنه الوحيد إلى موطنه الأم، وترجمت هذه أيضا إلى الإنجليزية عام 2012.

وإلى جانب أعماله النثرية صدرت لمُريد 12 ديوانًا شعريًّا، أقدمها "الطوفان وإعادة التكوين" عام 1972، و"فلسطيني في الشمس"، و"نشيد للفقر المسلح"، و"سعيد القروي وحلوة النبع"، و"الأرض تنشر أسرارها"، و"قصائد الرصيف"، و"طال الشتات"، و"عندما نلتقي"، و"رنة الإبرة"، و"منطق الكائنات"، و"منتصف الليل"، وغيرها.

في أواخر الستينيات، تعرّف البرغوثي إلى الرسام الفلسطيني الراحل ناجي العلي، وجمعت بينهما صداقة عميقة، حتى بعد اغتيال العلي في لندن فكتب عنه وعن شجاعته في كتابه "رأيت رام الله"، ورثاه شعرًا بعد زيارة قبره.

شارك مريد البرغوثي في عدد كبير من اللقاءات الشعرية ومعارض الكتاب الكبرى في العالم، وقدّم محاضرات عن الشعر الفلسطيني والعربي في جامعات القاهرة وفاس وأكسفورد ومانشستر وأوسلو ومدريد وغيرها، واختير رئيسا للجنة التحكيم لجائزة الرواية العربية عام 2015.

وصدر له ديوانه الشعري "مملكتي من هذا العالم" باللغة الإسبانية العام الماضي.

ونشر البرغوثي بعد وفاة زوجته العديد من المقطوعات والنصوص الأدبية الحزينة، كـ"افتحوا الأبواب لتدخل السيدة"، و"من ينشغل بحزنه على فقد المحبوب ينشغل عن المحبوب، الآن أطلب من حزني أن يتجه إلى أقرب بوابة ويغادر هادئا كما أشاء أو هادرا كما يشاء لكن دون أن يلفت الأنظار".

ويختم ليث حديثه: "دخل مُريد في كل بيت فلسطيني، وكل عقل شاب وفتاة بروايته ونصوصه الشعرية التي ترجم الكثير منها إلى عدة لغات، وعرضت في كثير من المعارض، وضاهت كبار الشعراء، وقال عنه محمود درويش "كلما قلنا إنه انتهى يخرج لنا من جديد"، فقد عاش حرًا ومات حرًا دون أن يرى بلاده حرة".