خطوات متسارعة قامت بها السلطة الفلسطينية باتجاه العودة إلى مسار المفاوضات مع الاحتلال، في ظل رغبتها المُعلنة بالتقارب مع إدارة الرئيس الأمريكي جو بادين، ففي السابع عشر من نوفمبر الماضي وبعد أيام من فوز بايدن استأنفت علاقاتها العلنية مع دولة الاحتلال، وتراجعت عن رفضها استلام أموال المقاصة التي يجبيها الاحتلال وفق اتفاقية باريس رغم إصراره على منع صرف رواتب أسر الشهداء والأسرى الفلسطينيين، كما أعادت سفيريها إلى الامارات والبحرين، وخفضّت من وتيرة تنديدها بتطبيع بعض الأنظمة العربية مع الاحتلال والذي تجاوز الحقوق التاريخية الفلسطينية وشكّل دعمًا مباشرًا لكيان الاحتلال.
وفي إطار استئناف علاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية وحِرصها على تعزيز العلاقات مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، أعلنت عن ارتياحها الشديد لفوزه في الانتخابات، وأجرت مع فريقه محادثات سرية بعيدًا عن الإعلام، وكشفت عن رغبتها بالعودة إلى المفاوضات وفق خيار حل الدولتين حسب تصريحات أطلقها عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أحمد المجدلاني الذي تحدّث عن وجود مؤشرات إيجابية يمكن البناء عليها في العلاقة مع الإدارة الأمريكية الجديدة، ما يشير إلى رغبة السلطة الفلسطينية بعودة العلاقات الفلسطينية الأمريكية إلى سابق عهدها، والقبول من جديد بالرعاية الأمريكية للمفاوضات مع الاحتلال.
وفي ذات السياق وافق الرئيس محمود عباس مؤخرًا على إصدار مرسوم الانتخابات العامة، رغم أن هذا الأمر تطالب به القوى والنخب الفلسطينية منذ أكثر من عقد من الزمن دون جدوى، ما يشير إلى سعي عباس إلى التساوق مع رؤية بادين الذي أعلن رغبته في دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان في كافة أقطار العالم، وهو الأمر الذي يوضّح سر توقيت إصدار مرسوم الانتخابات، ويعبّر عن رغبة عباس في تجديد شرعيته الدستورية والقانونية، في ظل تشكيك دولي بشرعيته، وتدني شعبيته فلسطينيًا، حيث طالب 66% من أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة برحيله وفق استطلاع رأي أجراه مؤخرًا المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في رام الله.
كما أن تأكيد رئيس السلطة الفلسطينية قبل أيام إصراره على الذهاب للانتخابات حتى بدون حركة حماس المنافس الأبرز لحركة فتح -وفق ما نشرته صحيفة الشرق الأوسط السعودية بتاريخ 29 يناير الماضي على لسان مصدر فلسطيني مقرب من عباس، يوضّح أن قرار الذهاب للانتخابات العامة لا يهدف إلى إنهاء الانقسام الفلسطيني على مبدأ الشراكة السياسية والتوافق الوطني، وإنما هو رسالة سياسية للخارج تهدف إلى تعزيز مواقفه السياسية في مسار التسوية مع الاحتلال.
الرهان الخاسر على إدارة جو بايدن
رغم إعلان الإدارة الأمريكية الجديدة على لسان سفيرها لدى الأمم المتحدة ريتشارد ميلز رغبتها في تجديد علاقاتها مع السلطة الفلسطينية، ونيتها إعادة فتح القنصلية الأمريكية شرقي مدينة القدس المحتلة، ودعمها لحل الدولتين، واتفاقيات التطبيع العربي مع الاحتلال، وسعيها نحو تحسين الأوضاع الميدانية للفلسطينيين خاصة في غزة، واستئناف مساعداتها المادية والإنسانية للشعب الفلسطيني، إلا أن مصادقة مجلس الشيوخ الأمريكي بأغلبية ساحقة على بقاء السفارة الأمريكية في القدس كعاصمة لدولة الاحتلال، يمثل ضربة موجعة للآمال التي عقدتها السلطة الفلسطينية على الرئيس الأمريكي جو بايدن.
فقرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس الذي اتخذه الرئيس السابق دونالد ترامب في إطار دعمه اللامحدود لدولة الاحتلال، عوضًا عن كونه يشكل انتهاكًا فجًّا للقوانين الدولية ذات العلاقة بالمدينة المقدسة، فهو يهدف إلى إخراج المدينة المقدسة من أية مفاوضات مستقبلية، ويشجع الاحتلال على الاستمرار في الاستيطان وفرض الأمر الواقع على الفلسطينيين.
إن المتابع لتشكيلة إدارة الرئيس جو بايدن يلحظ تعاظُم النفوذ الصهيوني بشكل كبير في الإدارة الأمريكية الجديدة، فبَايدن الذي انتخبه 77% من اليهود الأمريكيون وصفه رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو بأنه "صديق عظيم لإسرائيل"، ولطالما أعلن بادين دعمه للصهيونية وحبّه لدولة الاحتلال، ورأى أن وجودها ضروري لأمن اليهود حول العالم، ومن أقواله المشهورة: "إنه إذا لم تكن إسرائيل موجودة، فستضطر الولايات المتحدة إلى اختراع إسرائيل لحماية المصالح الأمريكية"، وأيضًا تصريحه الذي مجّد فيه الصهيونية بقوله: "إذا كنت يهوديًا فسأكون صهيونيًا، والذي أشار إلى أنه لا يُشترط عليّ أن أكون يهوديًا لأصبح صهيونيًا"، فالرجل عندما كان عضوًا في مجلس الشيوخ أيّد قانون الكونغرس لعام 1995م والذي نصّ على نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.
لا يحتاج الرئيس بايدن إلى إثبات دعمه المُطلق لكيان الاحتلال بعد اختياره أحد عشر يهوديًا لشغل مناصب سياسية مؤثرة في إدارته الجديدة، الأمر الذي ضاعف من قدرة الصهاينة على التأثير المباشر في السياسات الأمريكية المتعلقة بالصراع في المنطقة، فوزير الخارجية اليهودي أنتوني بلينكين أعلن رغبته التشاور مع دولة الاحتلال بشأن الموضوع الإيراني، ونائبته اليهودية ويندي شيرمان لعبت دورًا في تحويل برنامج الحزب الديمقراطي إلى الخطوط التقليدية الداعمة للاحتلال، وكبير موظفي البيت الأبيض اليهودي رونالد كلاين درس التوراة، وأفصح عن التزامه بتربية الأطفال اليهود، هذا بالإضافة إلى نائب مدير وكالة المخابرات المركزية ديفيد كوهين، والمدعي العام ميريك جارلاند، ومدير المخابرات الوطنية أفريل هاينز، ومدير مكتب سياسة العلوم والتكنولوجيا إريك لاندر، ونائب وزير الصحة راشيل ليفين، ووزير الأمن الداخلي أليخاندرو مايوركاس، ومدير الأمن السيبيراني بوكالة الأمن القومي آن نوبيرغ ووزيرة الخزانة جانيت يلين، وجميعهم من اليهود الذين يُتَوقَّع لهم لعب دور داعم للاحتلال الصهيوني خلال حقبة بايدن.
يتَّضح مما سبق ذكره أن انتظار السلطة الفلسطينية لرعاية أمريكية نزيهة ومحايدة لمفاوضات التسوية مع الاحتلال ما هو إلَّا ضرب من الخيال، فالإدارة الأمريكية الجديدة التي ثبَّتت بواسطة مجلس الشيوخ قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ودعت الدول العربية التي لم تطبع علاقاتها مع الاحتلال إلى القيام بذلك، لن تُقدِّم لشعبنا سوى مزيد من الوعود الزائفة، تغلفها بفُتات من المساعدات والأموال السياسية التي تهدف إلى دفعنا بالقبول بالأمر الواقع الذي تفرضه دولة الاحتلال، فالرئيس الأمريكي جو بادين وإن كان يختلف مع سلفه ترامب في الأسلوب واختيار الألفاظ، لكنه يتفق معه في تقديم الدعم السياسي والعسكري اللامحدود لكيان الاحتلال.
ربما بات من أوجب الواجبات الوطنية على قيادة السلطة الفلسطينية التي ما زالت بعد قرن من الزمن تراهن على استعادة مسار التسوية الذي ثبت فشله، وتتمسك باتفاقية أوسلو التي مزقت وحدة شعبنا سياسيًا وجغرافيًا، يجدر بها اليوم أن تتخلى عن رهانها على الإدارة الأمريكية الجديدة، وأن تعيد الأمانة إلى أبناء الشعب الفلسطيني، من خلال التمسّك بقرار إجراء الانتخابات العامة، وعدم التراجع عنها تحت أي مبرر أو ذريعة، والإصرار على نزاهتها وشفافيتها، والقبول بنتائجها، وصولًا إلى إتمام الوحدة وإنهاء الانقسام، وتسليم الراية لمن يختاره الشعب قائدًا ليواصل مسيرة التحرير وبناء الدولة الفلسطينية.