تعيش حركة فتح منذ سنوات طوال صراعًا داخليًا ممتدًا منذ عهد زعيمها الراحل ياسر عرفات، لكنه عاد ليطفوَ على السطح من جديد مع إصدار السيد محمود عباس مرسوم الانتخابات الفلسطينية المقبلة، في ظل عدم توافق الحركة على اختيار خليفة لعباس الذي يتزعّم الحركة منذ وفاة زعيمها في نوفمبر من العام 2004م، رغم أن الرجل جاوز الخامسة والثمانين من العمر ويعاني من الأمراض واضطر إلى الدخول إلى المستشفى مرات عديدة، ويطالب الفلسطينيون برحيله وفق استطلاعات رأي عديدة كان آخرها استطلاع أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في رام الله والذي أظهر أن 66% من الفلسطينيين يطالبون الرجل بالاستقالة.
تضارب التصريحات الفتحاوية تؤكد وجود صراعات تنافسية كبيرة بين قادة الحركة على خلافة عباس، واختيار مرشحي الحركة للانتخابات المقبلة، فإعلان القيادي في حركة فتح حاتم عبد القادر رغبة الأسير مروان البرغوثي الذي يتمتع بقبول واسع داخل قواعد الحركة الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة يتعارض مع تصريح رئيس الوزراء محمد اشتية بأن رئيس السلطة محمود عباس هو مرشح الحركة للانتخابات الرئاسية المقبلة، كما أن إعلان التيار الإصلاحي التابع للقيادي المفصول من الحركة محمد دحلان عن التوجّه لخوض الانتخابات بقائمة وطنية مستقلة عن الحركة يدفع للتساؤل حول المستقبل التنظيمي للحركة حال استمرار الصراع الداخلي إلى الثاني والعشرين من مايو المقبل تاريخ إجراء الانتخابات التشريعية الفلسطينية.
تفاقم الصراع الفتحاوي الداخلي دفع عباس في السادس والعشرين من يناير الماضي وخلال جلسة المجلس الثوري للحركة إلى التهديد الصريح باستخدام "القوة" لمنع كل من يترشح خارج قائمة الحركة، إضافة إلى بذل الجهود الداخلية لثني مروان البرغوثي عن منافسة عباس في الترشح لمنصب رئاسة السلطة، أو خوض الانتخابات التشريعي في قائمة مستقلة عن القائمة التي ستختارها اللجنة التنفيذية لحركة فتح والتي يتزعمها محمود عباس.
الزيارة التي قام بها عضو اللجنة المركزية لحركة فتح حسين الشيخ إلى سجن "هداريم"، ولقائه بالأسير مروان البرغوثي الذي ترأس القائمة الانتخابية لفتح في الانتخابات التشريعية الماضية، والمعتقل منذ نيسان 2002م، ويقضي حُكمًا بالسجن خمسة مؤبدات وأربعين عامًا، ورغم أنه يشير إلى رغبة صهيونية باستمرار عباس بزعامة حركة فتح خلال المرحلة المقبلة، فإنه من جهة أخرى يؤكد هواجس اللجنة التنفيذية لحركة فتح وزعيمها من إقدام البرغوثي على منافسة عباس في منصب الرئاسة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهذا يوضح الإغراءات الكبيرة التي قدمها عباس للبرغوثي مقابل انسحابه من المشهد الانتخابي، حيث نقلت العديد من المصادر الإعلامية عن القناة (12) الصهيونية أن رسالة عباس التي حملها الشيخ اشتملت على تنازله عن الترشح للرئاسة مقابل الحصول على المكان الأول في قائمة الحركة للانتخابات التشريعية المقبلة، ومنحه صلاحية اختيار عشرة مرشحين في أماكن متقدمة من القائمة، إضافة إلى منح عائلته مساعدات اقتصادية.
التحدي الأبرز الذي يواجه حركة فتح في غزة هو الحضور الجماهيري المنظم للتيار الإصلاحي التابع للقيادي محمد دحلان المفصول من الحركة، والذي يلقى دعمًا إماراتيًا كبيرًا، وتمارس العديد من الأنظمة العربية ضغوطًا على عباس لتحقيق المصالحة بين الرجلين في مواجهة حركة حماس خلال المعركة الانتخابية المقبلة، حيث أوردت العديد من المصادر أن الزيارة التي قام بها مدراء أجهزة المخابرات الأردنية والمصرية إلى رام الله في السابع عشر من يناير الماضي بعد يومين فقط من إصدار عباس مرسوم الانتخابات، إنما كانت بهدف تشكيل قائمة انتخابية موحدة تضم مرشحي عباس ودحلان لضمان فوز فتح في الانتخابات المقبلة.
الإرهاصات التنافسية التي تعيشها حركة فتح ومرور الأيام دون قدرتها على رأب الصدع التنظيمي الداخلي يضاعف التحديات أمام قيادة الحركة، خاصة مع اقتراب موعد تسجيل القوائم الانتخابية للانتخابات التشريعية المقبلة، الذي ينتهي في نهاية مارس المقبل بحسب المواعيد التي حددتها لجنة الانتخابات المركزية الفلسطينية، وبالتالي ينحصر شكل المشاركة الفتحاوية في الانتخابات المقبلة ضمن أحد السيناريوهات التالية:
أولًا- نجاح الضغوطات العربية على عباس ودفعه لتشكيل قائمة مشتركة مع دحلان، وأيضًا نجاح جهود عباس في ثني مروان البرغوثي عن الترشح للرئاسة مقابل ترؤّسه قائمة فتح الانتخابية، وهذا الخيار هو الأقوى تنافسيًا لحركة فتح، ويعزز من توحيد صفها التنظيمي الداخلي، ويضاعف من فرص فوزها في الانتخابات التشريعية المقبلة، لكنه خيار مُستبعد في ظل التصريحات الإعلامية المتضاربة لقادة الحركة، وعدم قبول عباس بعودة محمد دحلان إلى صفوف الحركة أو إسقاط الأحكام القضائية الصادرة بحقه في الضفة، واستمرار السلطة بقرار قطع رواتب أنصار دحلان بتهمة "التجنّح"، وأيضًا عدم وجود مؤشرات على قبول مروان البرغوثي العرض الأخير وإعلانه دعم عباس كمرشح وحيد للحركة في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ثانيًا- نجاح المفاوضات بين عباس والبرغوثي، والتوصل إلى تشكيل قائمة انتخابية موحدة برئاسة البرغوثي على أن يكون عباس مرشح الحركة لمنصب رئاسة السلطة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهنا سيكون التحدي الأبرز أمام فتح هو القائمة التنافسية المستقلة التي سيشكلها التيار الإصلاحي لحركة فتح التابع لمحمد دحلان، والتي سينتج عنه منافسة فتحاوية جغرافية بين القائمة الموحدة في الضفة، وقائمة التيار الإصلاحي التي تتمتع بحضور جماهيري في غزة، مما سيؤدي إلى تشتيت أصوات القواعد الجماهيرية لحركة فتح، وهذا الخيار يبقى قائمًا بانتظار موافقة مروان البرغوثي على دعم عباس في الترشح لولاية رئاسية جديدة، مقابل ترؤس القائمة الانتخابية لحركة فتح في الانتخابات التشريعية المقبلة.
ثالثًا- تنافس غير محمود بين ثلاثة قوائم فتحاوية، إحداها تمثل تيار عباس، والثانية تمثل تيار البرغوثي، بينما تمثل القائمة الفتحاوية الثالثة التيار الإصلاحي التابع لمحمد دحلان، وهو خيار واقعي يعكس الحالة الراهنة التي تعيشها حركة فتح، وستكون المنافسة في هذا السيناريو على أشدها بين أنصار الحركة مما يوفر تقدمًا مريحًا لقائمة المقاومة التي تدعمها حركة حماس.
رابعًا- مشاركة حركة فتح ضمن قائمة انتخابية تضم ائتلافًا من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، ويأتي هذا السيناريو لتحجيم قوة القوائم الفتحاوية المنافسة، وتشكيل درع أمان انتخابي لفتح من خلال دعم أنصار فصائل المنظمة في مواجهة القائمة الانتخابية التي تدعمها حركة حماس، ورغم أنه خيارًا قائمًا لكنه لن يشكل طوق نجاة لحركة فتح في ظل وجود منافسة من قوائم فتحاوية أخرى.
خامسًا- ذهاب حركة فتح لتشكيل قائمة وطنية مشتركة مع حركة حماس وعدد من الفصائل الأخرى، وهو الخيار المفضّل لحركة فتح في ظل تخوفها من تكرار تجربة فوز حماس في الانتخابات التشريعية، خاصة مع تشتّت أصوات قواعدها الانتخابية، وحاجتها لإعادة فرض سيطرتها بعد الانتخابات على غزة، ورغم أنه خيار قائم لكن يواجه العديد من التحديات منها مدى قدرة قيادة فتح على إقناع قواعدها بالتحالف مع حماس وطي صفحة الانقسام الداخلي، في ظل عدم قدرتها على توحيد صفوفها التنظيمية، وأيضًا تخوفّها من ردود أفعال كيان الاحتلال والإدارة الأمريكية التي تصنف حماس وقادتها على قوائم الإرهاب.