يخطفُك المنظرُ ويشدّك الجمال والدّلال.. فراشاتٌ تتمايل بغنجٍ فوق أزهار اللوز، وينبوع ماءٍ متسلّل بين صخرتين مخضَرّتين.. رائحة القهوة المُرَّة في البكرج النحاسيّ تستفزّ أنفك ومزاجَك، لتعود في ثوانٍ للزمن القديم.. زمن الحواكير.
كالسحر يجذبك المشهد، فالبُوم تعبسُ فوق الشجرة، والفأر الذي جنّن أهل القرية يختبئ منتظراً قضم أكياس القمح في جحره الصغير، كل هذا وأكثر في مساحة لا تتجاوز الأربعة أمتار ونصف يعرضها الفلسطيني أمير شهاب -40 عاماً- بكل تفاصيلها في مشهد فني للحاكورة الفلسطينية القديمة، تلك التي ما زالت عالقةً في ذهنِه ومرّ عليها ثلاثون عاماً.
في جانب من الحاكورة ترى الحلّة النحاسية، أسفل البيت القديم ذي النوافذ الخشبية، فيما مفتاح البيت ببساطته وربطة أحبالِه القديمة مغروس في مدخله، إبريق الفخار والمكنسة وسلّة القشّ المليئة بالبيض، وحدوة الحصان، ومصباح الكاز، وأشياء أخرى تعبّر عن دقة الصنع والحنين للماضي.
شهاب، ابن مدينة رام الله، يحنّ لقريته التي وُلِد وتربّى فيها، إنه العاشق لـ"عنبتا"، القرية التي كانت تحفّها عن اليمين والشمال سنابل القمح الذهبية ومن فوقِها تتسابق الفراشات البيضاء.
فباستخدام الجبص والفلين فقط إلى جانب بعض المقتنيات التراثية صنع هذا الفلسطينيّ حاكورته الفلسطينية بدقةٍ لا متناهية وبإبداعٍ لا محدود.
تفاصيل الحياة
"ختيارةٌ" بثوبِها الفلسطيني التراثي المطرز بخيوط الحرير عنابية اللون تجلسُ بابتسامةٍ وهدوء، وختيارٌ يقترب من التسعين يرتدي ثوب الفلاحين القديم المسمَّى "الدّمايةَ"، ويلفّ الحطة والعقال على رأسِه ليعبّرا عن اللّمة الفلسطينية والترابط القديم واجتماع الأحبّة والجيران.
وحين تقترب من شجرة اللوز تشمّ رائحة اللوز الزكيّة، أما حين تجاور قفص الحمام تسمع حركة أجنحتها وصوتها، ويا لروعة الشعور حين تقترب من نبع الماء وتسمع خريرَه وترى الإضاءة المميزة منعكسةً عليه بطريقةٍ مقصودة كما أرادها شهاب.
يقول شهاب:" قبل البدء بصنع الحاكورة الفلسطينية التراثية كنت قد حصلت على خبرةٍ كافيةٍ من خلال تزيين أحواض أسماك الزينة بعيداً عن الشكل التقليدي المعتاد، فصرت أصنع له غطاءً يحمل حياةً جديدة وفكرةً مختلفة في كل شهر حتى وصل عدد التصاميم إلى 68 تصميماً للأسماك والشلالات والماء والتراث".
قرى التهجير الإسرائيلي
ويضيف:" الخيال في حياتي والحنين للماضي أمران يشدّانني ويأخذان حيزاً كبيراً من تفكيري فتجدني أغوص فيهما مشتاقاً، ومن هنا انطلقتُ بفكرتي في صناعة الحاكورة الفلسطينية".
ويتبع:" ابتدأت بفكرتي في شرفة منزلي مستغلاً مساحتها الصغيرة، ثم طوّرتها لتأخذ مساحةً أكبر في غرفةٍ تجاور محل الصيانة الذي أعمل به، والمُنشأ في عمارة في مدينة رام الله".
وكان شهاب قد صنع إحدى حارات عنبتا في عيد الأضحى الماضي بنفس المواد كإهداء للمسلمين في عيدهم.
شهاب الذي يحنّ لقريتِه "عنبتا" حنين الطفل لأمّه البعيدة يفكر اليوم جدياً في العودة إليها، تاركاً رام الله المدينة الصاخبة التي لا تهدأ ولا تنام، وينوي أن يبدع من جديد في صنع وتشكيل القرى الفلسطينية التي احتلّها الكيان الصهيوني عام 1948 بتفاصيلها إنصافاً للقضية الفلسطينية.