فلسطين أون لاين

آخر الأخبار

"ليس حكمًا بالإعدام إنما قوة وبداية حياة"

آية.. شابة تكافح مرض السرطان للمرة الثالثة

...
غزة/ هدى الدلو:

لم يستطع عقلها عندما لم تكن تجاوزت 12 عامًا من عمرها أن يترجم معنى كلمة سرطان، سوى أنه مرض تسمع من حولها يطلق عليه وصف لعين وخبيث، لكنها استطاعت أن تقرأ في عيني والدتها المصابة به الوجع والألم، وحاولت بجهد كبير أن تكون سندًا لوالدتها في تلك المرحلة، ولكن أبى المرض إلا أن يخطفها منها سريعًا، بعد شهر على إصابتها فقط.

الشابة آية الزير (32 عامًا) تقطن في مدينة غزة، لم تتمكن من استيعاب فكرة مرض والدتها لتعي فكرة الفقد، تكافح اليوم آية السرطان للمرة الثالثة، فالأولى مع والدتها، والثانية بإصابة فلذة كبدها، واليوم مع ذاتها لتكن بطلة الحكاية وتسرد لصحيفة "فلسطين" قصص كفاحها بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة مرض السرطان الذي وافق الرابع من شباط (فبراير).

بسبب ذلك اللعين خسرت أمي، كانت التجربة الأولى والصعبة، وكنت طفلة صغيرة، أراها وهي تتألم ولا أستطع أن أحرك ساكنًا، فأسأل ذاتي: ماذا يعني سرطان؟ تلافيت السؤال وقررت أن أكافح مع أمي ضد المرض، فكنت بجانبها على صغر سني، أطبطب على يدها، أخفف عنها وجعها وأساندها بالكلمة الحلوة.

أبث في نفسها الأمل رغم انعدامه لكون حالتها صعبة، واكتشاف المرض في مراحله المتأخرة، فكان المرض يأكل جسدها ولم أستطع مساعدتها، حتى تمكن من خطفها سريعًا.

صدمة كبيرة لم أستطع ترجمتها، وحتى اليوم أعيشها لأني بحاجة إليها في كل وقت، شعور صعب أن تفقدي أمك وأنتِ صغيرة، ولا أزال أشعر أن روحها ترافقني رغم مرور 20 عامًا على وفاتها.

وعلى قصر مدة مرضها كانت تجربة لتعلمني أن كل شيء قابل للزوال، وأن أعتمد على نفسي بكل شيء بعد أن كنت أستند عليها، ففقدتها في ظروف كثيرة بحياتي، خاصة وقت مرضي، غالبية المرضى بجانبهم أمهاتهم يتحسسن آلامهم وأوجاعهم، وأنا وحيدة دونها، فلو كانت برفقتي لربتت على كتفي، رغم وجود الجميع حولي، هذا غير فقدي لها وقت نجاحي وزواجي، وبين وقت وآخر أزورها لأخبرها بفرحي ونجاحي ووجعي.

وفي الرابع من حزيران (يونيو) 2016م زارني ضيف ثقيل على قلبي، السرطان ثانية، هكذا شخصت حالة ابني براء، لم يكن تجاوز من عمره حينها ست سنوات، إذ ظهرت عليه أعراض مختلفة كارتفاع في درجة الحرارة، وعدم قدرته على المشي، ففي البداية أساء الأطباء تشخيص حالته وجبروا ساقه ظنًّا أنه يعاني كسرًا، ومع سوء حالته اضطررت إلى عرضه على أطباء لإجراء فحوصات سريرية ومخبرية.

المخاوف دقت قلبي بقوة، وكذلك الهواجس لم تهدأ بعقلي: ثانيةً السرطان اللعين سيسرق طفلي هذه المرة، فأخبروني أنه مصاب بسرطان في الدم ويحتاج إلى زراعة نخاع، تجمع الناس حولي ومع الصدمة لم أرَ أحدًا أمامي، استفقت وقررت أن أفعل المستحيل من أجله.

كانت حالته تتطلب تحويلة طبية إلى مستشفيات الضفة الغربية، وسافرت برفقته، واضطررت إلى مداراة وجعي وخوفي عليه ليتمكن من أن يستمد قوته مني لكي يقوى على المرض، ومكثت هناك قرابة ثلاثة أشهر وأنا بعيدة عن ابنتي وزوجي وبيتي.

لم أتوانَ عن دعم براء نفسيًّا، رغم أن هاجس الخوف لم يفارقني، خاصة وقت إجراء العملية الجراحية، وتلقي العلاج الكيميائي، وإجراء الفحوصات وخزع من النخاع، واستمرت رحلة علاجه ثلاث سنوات، كانت ملامحها القلق والخوف والسفر، حتى آخر جرعة دواء أخبرني الطبيب أن حالته تحسنت ويحتاج فقط لمتابعة مستمرة.

شعرت بفرحة وكأنه أصبح حرًّا، وسيعيش بسلام بعد معاناة وظروف صعبة وحرمان، فانتصرنا كلانا رغم الأنين، عام من الشفاء ليزورني السرطان ثالثة، في شهر التوعية به شاركت في إحدى الحملات التي تعنى بالفحص المبكر.

توقعت الإصابة لكوني أجريت في 2019م ثلاث عمليات استئصال كتل في الثدي وشخصت بأنها حميدة، لم أترك ذاتي واستمررت في الفحص الذاتي، واكتشفت إصابتي بالسرطان الذي رافقني في مراحل عمري، وأيقنت أن الله يختبرني، فعليّ أشمر عن ساعدي وأخوض التحدي لأنتصر.

لست بمفردي بل زوجي بجانبي يخوض التجربة معي، لا أخفي صدمته في البداية، وبعدها أصبح مصدرًا لقوتي لأتخطى محطات كثيرة، خاصة مع أول جلسة للعلاج الكيميائي شعرت كأن نارًا بجسدي، تحرق داخلي، ومخيلتي لم تفارقها مشاهد والدتي وطفلي، ولكن الألم سيجعلني أقوى.

فأصبحت الكتابة هي المنفى الوحيد لي، لأكتب ما أمر به من ألم يستفقدني كل ليلة، ويستند على أضلعي، وأسمعه يهمس لي: أتوغل في جسدك الآن، وأسلب شعرك الشلال، فإذا كنت قوية فسوف أنتصر على أسنته الحديدية، فأقاوم بكل قوة أمتلكها حتى يأتي اليوم الذي أعلن النصر والحرية لجسدي الضعيف.

مع أول جرعة "كيماوي" الخوف والفزع لم يفارقاني، شيء غريب يقتحم جسدي، ومضاعفات كثيرة: غثيان وألم بالمعدة واستفراغ، وتساقط خصلات شعري، وجهازي المناعي أصبح مؤشره صفرًا، ولكن براء طفلي بجانبي يحتويني بحضنه، ويقويني ويسندني.

ورسالتي في اليوم العالمي لمكافحة السرطان، أنه ليس حكمًا بالإعدام، إنما قوة وبداية حياة، أتمنى أن ينتهي السرطان ونعيش أحرارًا، فأملي في الله أولًا وأخيرًا، ورغم وجعي سأكون بجانب أي مريض يحتاج إلي بكل اهتمام وحب.