أحدث إعلان رئيس السلطة محمود عباس البدء في تنفيذ قرار المحكمة الدستورية القاضي بحل المجلس التشريعي جدلًا واسعًا من النواحي القانونية والسياسية والوطنية، فقد رأت المؤسسات والمراكز المعنية والمختصة بمتابعة أوضاع حقوق الإنسان أن الإقدام على هذه الخطوة يعد انتهاكًا صارخًا للحقوق وتغولًا واضحًا على مبدأ الفصل بين السلطات، في حين عدته الطبقة السياسية تعميقًا للأزمة وتكريسًا لسلطة الرئيس في مواجهة خصومه السياسيين.
وبالمجمل فإن الخطوة تضر بالمصالح الوطنية في ظل الظروف الحرجة التي يمر بها شعبنا في الوقت الذي يتنظر فيه هذا الشعب التحرك الفعلي والحقيقي نحو إنهاء الانقسام ورفع العقوبات المفروضة على قطاع غزة، وليس اتخاذ مزيد من القرارات السياسية التي من شأنها تعميق الانقسام الحاصل في الساحة الفلسطينية.
فالمحكمة الدستورية التي شكلها رئيس السلطة بقرار منه قد أظهرت حرصه على السيطرة على جميع السلطات وإبقائها في يده، كما أن هذه المحكمة ظهرت جليًّا بأنها لا تتمتع بأي استقلالية، إذ داومت هذه المحكمة على إطلاق يد الرئيس الفلسطيني وإعطائه صلاحيات تشريعية مطلقة، بل وأعطته صلاحية رفع الحصانة عن أعضاء المجلس التشريعي، في الوقت الذي تجاهلت فيه انتهاء ولاية الرئيس الفلسطيني، وأصدرت قرارًا استشاريًّا يطيح بالسلطة التشريعية، على الرغم من أن كليهما قد انتهت ولايته التمثيلية للشعب الفلسطيني منذ عام 2010، في انتقائية واضحة من قبل محكمة مسيسة تخضع لتدخلات الرئيس وأنشأت لهذا الغرض.
ويأتي قرار المحكمة الاستشاري في ظل سياسة ممنهجة ومدروسة يتبعها رئيس السلطة للإطاحة بالقضاء المستقل وتغييب دور المجلس التشريعي لتبقى السلطة التنفيذية هي صاحبة القرار والتشريع والتنفيذ، وكان أبرز معالم هذه السياسة الإطاحة برئيس مجلس القضاء الأعلى سامي صرصور، وكذلك قيام رئيس السلطة بتشكيل المحكمة الدستورية وتعديل القانون الخاص بها ليضمن السيطرة التامة عليها وعلى قراراتها.
إذ أصدر رئيس السلطة في (3 نيسان/ إبريل 2016) قرارًا رئاسيًّا بتشكيل المحكمة الدستورية العليا الأولى في فلسطين وذلك بدعوى متابعة اللوائح والأنظمة، وفحص مدى دستورية القوانين وتحديد صلاحيات السلطات الثلاث، وقد ساهم الفريق القانوني الخاص بالرئيس في ممارسة دور غير مقبول وطنيًّا وذلك من خلال تقديم المقترحات القانونية المتتابعة لرئيس السلطة والتي أدت لتكريس سلطته، بدلًا من تقديم المشورة القانونية والتوجيه الوطني اللازم لعلاج الإشكاليات المتراكمة، فمع صدور كل قرار بقانون عن الرئاسة تصبح هناك أزمة جديدة، إلا أنهم يقدمون المبررات اللازمة لخداع الرأي العام دوما.
وأذكر هنا حديث للمستشار القانوني الخاص بمؤسسة الرئاسة حسن العوري مبررا هذه الخطوة بأنه كانت هناك مشاورات لتشكيل هذه المحكمة منذ عام 2006 إلا أن ظروف الانقسام الفلسطيني الذي حدث في عام 2007 بين الضفة الغربية وقطاع غزة ساهم في تأخير أو تعطيل تشكيلها، وأن الرئيس وجد نفسه مضطرا لتنفيذ هذا الاستحقاق لعدة أسباب نذكر أبرزها.
صعوبة النظر في الطعون والقضايا الدستورية التي تحتاج إلى قرارات والمقدمة إلى المحكمة العليا التي كانت تحل محل المحكمة الدستورية بشكل مؤقت، وذلك وفق المادة 104 من القانون الفلسطيني والتي تنص على تولى المحكمة العليا مؤقتا النظر في كل القضايا المسندة للمحاكم الادارية والمحكمة الدستورية العليا لحين تشكيلها، وتطبيقا للمادة 103 من القانون الفلسطيني التي تعطي الرئيس حق إصدار المراسيم الخاصة بتشكيل المحكمة الدستورية، والتي يكون من أبرز مهامها الرقابة على دستورية القوانين واللوائح والأنظمة وتقديم التفسيرات اللازمة، إضافة لسلطة الفصل في أي تنازع في الاختصاص بين السلطات الثلاث.
إلا أن أطرافا فلسطينية أخرى ترى الأمر بطريقة مختلفة في ظل الخشية من المحاصصة السياسية وتعميق الانقسام وتعزيز السلطات في يد الرئيس الأمر الذي دفع مؤسسات المجتمع المدني لتوجيه رسالة عاجلة في حينه لرئيس السلطة تطالبه فيها بضرورة أن يأتي تشكيل المحكمة الدستورية العليا خطوة لاحقة تتوج فيها إعادة الحياة الدستورية المتمثلة بإجراء الانتخابات العامة "الرئاسية والتشريعية" وإعادة توحيد القضاء الفلسطيني.
وألا يأتي تشكيل هذه المحكمة بناء على الرغبة في السيطرة أو المحاصصة السياسية والتي يسعى من خلالها أي حزب أو جهة رسمية للسيطرة على هذه المحكمة، لأن المحكمة الدستورية العليا تعد حارسة القانون الأساسي، وحامية للحقوق وحافظة للحريات، الأمر الذي يفرض المحافظة على استقلالها وحيادتها بعيدا عن الدور والتدخل السياسي سواء من الرئيس أو غيره.
إلا أن الرئيس الفلسطيني لم يلتفت لكل الدعوات والمطالبات الرامية لوقف عمل المحكمة، وتجاهل أصوات المنظمات الحقوقية ولم يلقِ بالًا لحالة التنديد والرفض في الشارع الفلسطيني والتي تقوده معظم القوى والمكونات الوطنية، لأن استمرار انعقاد المحكمة الدستورية العليا يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الأساسي الفلسطيني وقانون المحكمة الدستورية، لما يمثله من مخاطر على النظام السياسي الفلسطيني، ومبدأ سيادة القانون والفصل بين السلطات واستقلال القضاء.
وتظهر المخاوف في الوقت الراهن بعد إصدار مراسيم الانتخابات والاستعدادات الجارية لتنفيذها وقرب عقد اللقاءات الوطنية في القاهرة للتفاهم على مجمل الملفات العالقة والخروج برؤية شاملة تحدد مسار العمل في الفترة المقبلة، لكن تبرز هذه القضية مجددا إلى الواجهة خشية أن تمارس هذه المحكمة تدخلا مباشرا في موضوع الانتخابات وأن تستخدم بطريقة تؤدي لإجهاض وإفشال الجهود الحاصلة في ظل عدم قانونية تشكيلها ورفض الكل الفلسطيني لدورها والمطالبات المتكررة بإيقاف عملها.
من هنا فإنه بات من الضروري سحب هذا القرار والرجوع عنه لكون تطبيقه لن يؤدي إلى إنشاء وتشكيل محكمة دستورية مستقلة، والعمل على الترتيب لعقد مؤتمر وطني بحضور كل المختصين في القطاع الرسمي والأهلي لوضع استراتيجية وطنية تؤدي لإصلاح وبناء القضاء الفلسطيني المستقل بعيدا عن التدخلات السياسية، على أن يأتي تشكيل المحكمة الدستورية كخطوة لاحقة لتوحيد القضاء الفلسطيني وإعادة الحياة الديموقراطية للمؤسسات الدستورية الفلسطينية من خلال إجراء الانتخابات العامة الرئاسية والتشريعية.