كلابٌ بوليسية وجنودٌ إسرائيليون يتسللون في الخفاء فوق أسطح المنازل المتلاصقة في البلدة القديمة بمدينة القدس المحتلة، وحينما انتصف الليل بستاره الحالك، جلس الطفل عبد الرحمن الذي لم يتخطَّ السادسة عشرة من عمره فوق سطح منزله يتناول العشاء مع أصدقائه.
وعلى وقع كمين محكم فُتح معه باب البيت من الأسفل، انقضت القوة العسكرية من سطح المنزل الأعلى لتقترب القوة الإسرائيلية المهاجمة من "عبد الرحمن".
لم تصدق والدته أن طفلها المريض هو هدف الاحتلال، وأرسل لأجله كل هذه القوة المدججة بالسلاح، فمنذ أسبوعين يخضع لتحقيقات مكثفة في الزنازين العسكرية.
ونظرًّا لحالته الصحية ومعاناته مع مرض السكري، تعالت الأصوات الحقوقية المطالبة بإنقاذ حياته والإفراج عنه.
أربع ساعات
"في تلك الليلة، كان الجنود يدفعون طفلي بقوة، لم يلتفوا إلى نداءاته لي: "يما بدي أشرب مي"، ولم يلتفتوا إلى تعبه وضعفه نتيجة مرضه المزمن بـ "السكري".
قابلني الضابط بكلمات مستفزة حينما كنت أحاول الاتصال على الإسعاف: "تحلميش الإسعاف يوصلك"، وقد صدق قوله، فبعد أربع ساعات جاءت "الإسعافات الإسرائيلية" وقد فات الأوان، لأني طفلي اقتيد إلى زنازين التحقيق في مركز "المسكوبية"، عبر طرف سماعة الهاتف تروي والدته التفاصيل لصحيفة "فلسطين".
وفي داخل زنزانة التحقيق ارتفع منسوب قياس السكر إلى 650، فحُوِّل "عبد الرحمن" للمشفى، مشهد جاثم على فم الأم "ذهبت للمشفى فوجدته مقيدًا على السرير، بوجه مصفر شاحب، حينها طلب الطبيب الإسرائيلي في مستشفى "هداسا عين كارم" عدم مغادرة عبد الرحمن المشفى قبل ثلاثة أيام، لأن حالته خطِرة وقد يصل إلى مرحلة الموت أو قد تتعطل أجزاء بجسده".
أسبوعان مضيا منذ اعتقال عبد الرحمن، يمنع المحامي من زيارته، يمنع أهله من سماع صوته، تستحضر والدته مشهدًا من إحدى جلسات المحاكمة: "قررت القاضية الإسرائيلية في جلسة المحاكمة التالية إرسال طفلي للمشفى حينما رأت التقارير الطبية ووضعه الخطر؛ لكن أجهزة مخابرات الاحتلال رفضت قرار القاضية التي خضعت في النهاية".
"حولوك لطبيب؟"، تسأل القاضية "عبد الرحمن" في جلسة المحاكمة ذاتها، فأخبرها أن ضباط الاحتلال لم يحضروا طبيبًا للسجن، وكل ما فعلوه جعلوه يتحدث هاتفيًّا مع شخص عرّف نفسه أنه طبيب، تعلق والدته ساخرة: "كيف بده الطبيب يعرف حالته على التلفون، وهو محتاج فحص دم، وسكر، لأنه كتير تعبان".
تجمع الغضب بداخلها: "لم يدعوه يكمل إجابته فقاطعوه، وتبين أنهم لم يعطوه إبر "الأنسولين" ويمنعون عنه كل شيء، والأمر الأدهى أنه معتقل في زنازين عزل انفرادي منذ أربعة عشر يومًا".
15 ساعة تحقيق
بعد جلسة المحاكمة تلك، أعطت قوات الاحتلال "عبد الرحمن" كمية كبيرة من "الأنسولين" لخفض نسبة السكر، وأدخل لغرفة التحقيق مدة 15 ساعة متواصلة، "قاصر مريض بالسكري يمنع القانون الدولي اعتقاله، يتعرض لتحقيق وشبح متواصل"، كلمات مقهورة خرجت من فم الأم.
مرة واحدة استطاعت الأم رؤية طفلها يتحدث بعدما شاهدته في المشفى، وكان وقتها فاقد الوعي، تستحضر صورته، "رأيت وجهه منتفخًا شديد التعب، وكأنه ليس طفلي عبر شاشة في جلسة المحاكمة.
لكن القاضية الإسرائيلية رأته رؤية مختلفة وهي تستفز مشاعري وكأن قلبها من حجر: "هي ابنك مش مريض" ثم واصلت كلامها: "طالما هو مريض ليش بيعمل أعمال تخريبية" رغم أنهم يعلمون –حسب ما أظهرته الكاميرات– أنه لم يشارك بمواجهة جنود الاحتلال، وكان يقف أمام المنزل.
منزل عائلة البشيتي الذي يقع قرب المسجد الأقصى، لم يسلم من الاعتقالات المتكررة، تقدر والدة عبد الرحمن عددًا مرات اعتقاله بنحو 20 مرة اعتقال، جلها كان يُوقِّفه عدة أيام سوى المرة الأخيرة المعتقل فيها منذ أسبوعين، وهي تناشد كل ضمير حر بإنقاذ حياة طفلها وحماية أبناء القدس المحتلة.
لم يكن "عبد الرحمن" المعتقل الوحيد من أولادها، فشقيقه الأكبر هشام (20 عاما) اعتقل لمدة عام كامل قبل عامين، والآن معتقل منذ أربعة أشهر، وجاءت قوة مستعربة، عرّضته لضرب مبرح واعتقلته، وكذلك شقيقهم حاتم (17 عاما) يتعرض للاعتقال.
وبشأن سبب كل هذه الاعتقالات، طارت ضحكة من فم الأم ممزوجة بحسرة "أغلبية الاعتقالات من دون سبب، لأننا فقط نعيش بداخل المسجد الأقصى يريدون أن نترك البيت ونرحل، فينغصون حياتنا بأولادنا لدفعنا إلى الرحيل، فمن شاهد فيديوهات كاميرات التصوير تثبّت أن عبد الرحمن لم يشارك بالتظاهرات".