قبل وصول دونالد ترامب إلى رئاسة أمريكا، وقبل تجربته في السنوات الأربع الماضية، لو سألت أي خبير في الشأن الأمريكي الداخلي عن أهم التناقضات والصراعات التي يُعانيها المجتمع الأمريكي، لأجابك: التمييز العنصري الذي يُمارَس ضد السود و"الملوّنين" عمومًا، أو أجابك: صراع الهويات الذي يمثلها "الهيسبنك"، ولا سيما الآتون من أمريكا اللاتينية خصوصًا المكسيك.
ولكن لو سألت هؤلاء الخبراء عما يجري من صراع أمريكي ضد ترامب والتيار الذي يمثله دونالد ترامب، لوجدتهم نسوا ما كانوا يتوقعونه من صراع وانقسام مع السود و"الملوّنين" أو مع "الهيسبنك"، ولراحوا يتناولون الانقسام العامودي الذي تشهده أمريكا بين مؤيدي ترامب (وليس كل ناخبيه- 75 مليونًا)، من جهة، والدولة العميقة متمثلة (في الظاهر الآن) في الرئيس الجديد جو بايدن والحزب الديمقراطي والاتجاهات الليبرالية والنيو-ليبرالية، من جهة أخرى.
إنه صراع في قلب "الواسبس" (الأمريكيون البيض البروتستانت الأنكلو-ساكسون)، وهم مؤسسو الدولة الأمريكية وممثلو مراكز القوى الرأسمالية الإمبريالية السياسية – العسكرية – الاقتصادية – الاجتماعية - الأيديولوجية.
إنه صراع يشق/ يقسّم الكتلة البيضاء الرئيسة، وليس صراع تلك الكتلة مع أقلية "السود" أو مع المهمشين (المهاجرين الإسبنك) الناطقين بالإسبانية. فدونالد ترامب يمثل قطاعًا مهمًا من تلك الكتلة بدأ يشعر بأنه أخذ يُهمَّش لحساب قطاع من الكتلة البيضاء أخذ يستقوي بتحالف واسع تمثله النخب الديمقراطية المتفوقة من الأقليات السوداء والمهاجرة وغالبية من اليهود والكاثوليك. ولعل مثلها أوباما، ونموذج التعيينات التي أعلنها جو بايدن ليكونوا على رأس الإدارة الأمريكية الجديدة، وذلك من نائبة الرئيس إلى عدد لا بأس به من الوزراء والمديرين والمستشارين (الوزيرات والمديرات والمستشارات).
ثمة عدد هام من قادة الحزب الجمهوري أخذ ينقلب علنًا، بعد احتلال الكونغرس، لمعارضة ترامب الذي أحرجهم بطريقة أدائه، وتحديه للدولة العميقة، وتهديده بإحداث انقسام في الحزب الجمهوري نفسه. بل هدد قادة الحزب الجمهوري بفرض قيادته "الهوجاء" و"الفردية" و"العنيدة" عليهم، معتمدًا على تخطيهم من خلال مخاطبة قطاعات شعبية (متطرفة وعنيفة) ستكون هي حزبه حتى نهاية ولايته في 20 كانون الثاني/ يناير 2021، كما ستكون الحزب الثالث إذا ما استمر في الصراع والتحدي. (احتمال أن تشهد أمريكا ثلاثة أحزاب رئيسة: الحزب الديمقراطي، والحزب الجمهوري وحزب ترامب، إذا خرج "سالمًا"، وفقًا لتقدير الدكتور كمال الطويل).
على أن هذا الانقسام من علٍ، الذي مثله دونالد ترامب خلال السنوات الأربع الماضية، راح يتّسم بروح المغامرة وبقصر النفس، والميل إلى الحسم قبل نهاية ولاية ترامب مرورًا بلحظة تسلم السلطة، الأمر الذي قد يؤدي إلى مواجهة حاسمة، لم يُعدّ ترامب لها جيدًا، ومن ثم ستكون، مدوية، ولكن خاسرة.
يُلاحَظ على الكيفية التي أدار فيها دونالد ترامب الصراع بأنها تتسم بالارتجالية والتسرّع وضيق النفس، على سبيل المثال فتحه معركة احتلال الكونغرس، وقد خسرها، بالرغم من سيطرة أنصاره على الكونغرس لبضع ساعات. فوجد نفسه مهددًا بالعزل قبل نهاية ولايته، كما خسر في أثنائها حتى نائبه "الأمين" مايك بنس، ومن بعده عدد لا يستهان به من قادة الحزب الجمهوري التقليديين. وسمح لنانسي بيلوسي بامتلاك زمام المبادرة في الهجوم عليه لعزله، وذلك بعد أن كان "محاربًا" عنيدًا حتى بعد إعلان فوز جو بايدن. ولم يبقَ بين يديه في الأسبوع الأخير من ولايته غير اللجوء إلى الشارع العنيف على مستوى خمسين ولاية، وهو ليس بالأمر السهل أو المتاح، ما يشبه شعار "إما الانتصار اليوم وإما الموت" (النهاية).
بكلمة، أكدت النتائج الخاسرة التي نجمت عن الطريقة (الاستراتيجية والتكتيك) التي أدار بها دونالد ترامب الصراع، والمتسمة بالارتجالية وضيق النفس، إلى دخول المعركة الفاصلة خاسرًا، في الأسبوع الأخير لولايته.
السؤال: ماذا سيحدث لهذا التيار (القطاع الواسع من "الواسبس") الذي مثله دونالد ترامب، في حال انهياره وخروجه من ساحة الصراع دون أن يترك وراءه من يمكن أن يوفر قيادة سياسية لجمهور متطرف عنيف ويائس، الذي يعد نفسه وريث الآباء المؤسسين؟
بالتأكيد سيخرج دونالد ترامب من الصراع الحالي خاسرًا، ولكن ليس منهارًا، بلا قدرة على مواصلة الصراع للأربع سنوات القادمة. فهذا النمط من الشخصية قابل للانحناء حتى تجرّع كأس المذلّة. ذلك أن الجبن كامن في باطن مثل هذه الشخصية التي تعربد وهي قوية، وتنحني حين تضعف. فهي ليست من نمط الشخصية "المبدئية" و"الشجاعة"، خارج امتلاك السلطة والسطوة، والمستعدة لمواجهة العاصفة حتى الموت.
فهل سيستمر دونالد ترامب في الصراع بعد 20 كانون الثاني/ يناير 2021؟