أثارت قرارات بقوانين أصدرها رئيس السلطة محمود عباس وتعنى بتنظيم وإعادة تشكيل السلطة القضائية، غضبًا واسعًا في أوساط المؤسسات الحقوقية الفلسطينية، عادَّةً هذه القرارات سعيًا لإحكام السيطرة على القضاء وضرب استقلاليته، والتغوُّل بإحكام السيطرة على الشأن القضائي، وانتهاكًا لمبدأ الفصل بين السلطات ومبدأ سيادة القانون.
وأصدر عباس الاثنين الماضي، ثلاثة قرارات بقوانين تُعنى بتنظيم وإعادة تشكيل السلطة القضائية، وهي القرار بقانون رقم (40) لسنة 2020 بشأن تعديل قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002، والقرار بقانون رقم (39) لسنة 2020 بشأن تشكيل المحاكم النظامية، والقرار بقانون رقم (41) لسنة 2020 بشأن المحاكم الإدارية.
كما ذهب عباس إلى ترقية عددٍ من قضاة البداية إلى قضاة استئناف، وإحالة ستة قضاة إلى التقاعد المبكر بناءً على تنسيب من مجلس القضاء الأعلى الانتقالي.
وتُعدُّ قرارات عباس الأخيرة نسفًا لجهود إصلاح القضاء الفلسطيني، وتغوُّلًا جديدًا للسلطة التنفيذية على السلطة القضائية، وضرْبًا للأجواء الإيجابية التي تسود الشارع الفلسطيني وسط الحديث عن إجراء انتخابات عامة.
أمين سر جمعية نادي القضاة الفلسطينيين فاتح حمارشة أكد أن السلطة التنفيذية لا يحق لها التشريع وإصدار القوانين وفق القانون الأساسي الفلسطيني.
وقال حمارشة لـ"فلسطين": إن "التعديلات التي أُقرَّت على السلطة القضائية تعدٍّ على مبدأ الفصل بين السلطات، وتعزيز للحكم الشمولي، وفيه ممارسة لاختصاص السلطة التشريعية في غير حالات الضرورة"، إضافةً إلى أن التعديل جاء بعد انتهاء ولاية المجلس الانتقالي المشكَّل غير الدستوري.
وأضاف: "التعديلات التي أقرَّتها السلطة التنفيذية بحق السلطة القضائية، فيها تحوُّل من حلم مجتمع ديمقراطي ودولة قانون إلى نظام الحكم الواحد، يتحكم بالقضاء والتشريع وجميع السلطات".
وبيَّن أن التعديلات التي شملت السلطة القضائية، جعلتها مؤسسةً حكومية تابعة للسلطة التنفيذية عبْر طريقة تعيين رئيس السلطة القضائية وإنهاء خدماته.
ولفت حمارشة إلى أن التعديلات أُجريت سريعًا دون مشاركة المجتمع المدني، أو نادي القضاة، أو نقابة المحامين، وهو ما يُعدُّ مسألةً خطِرةً.
وشدد على أن استمرار غياب المجلس التشريعي ضربٌ للمجتمع الفلسطيني؛ لأن الدول المحترمة لا تلغي البرلمان لأي سببٍ كان، لكونه المشرِّع الذي يصدر القوانين، ويراقب باقي السلطات، ويمنح الثقة للوزراء ويسحبها منهم.
وأشار حمارشة إلى أن وجود المجلس التشريعي من المبادئ الدستورية التي تُبنى عليها الدولة، وغيابه يعني حرمان المواطنين من نواب يمثلوهم أمام السلطات الأخرى.
الإجهاز على القضاء
و عدَّ القاضي أحمد الأشقر التعديلات الأخيرة على قانون السلطة القضائية، أنها أجهزت على ما تبقى من استقلال القضاء، كما أنها تشكِّل مخالفة دستورية خطِرة وتنسف النظام الدستوري برمته".
وشدد الأشقر في حديثه لـ"فلسطين" على أنه لا يجوز تعديل قانون السلطة القضائية بقرار بقانون؛ لأنه قانون أساسي ينظم سلطة دستورية توازي السلطات الأخرى.
وقال: إن "التعديلات فُصِّلت على مقاس عيسى أبو شرار (رئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي)، فقد استثني من شرط سن السبعيين لتعيينه رئيسًا للمجلس الدائم وقد بلغ من العمر ما يزيد على ثمانين عامًا".
ولفت إلى أن التعديلات تحتوي صلاحيات مطلقة تجعل رقاب القضاة تحت سيف العقوبات بالإحالة للتقاعد والعزل والندب والاستيداع، ما يُعدُّ مخالفة للدستور.
بدورها، أشارت نقابة المحامين إلى قرارات عباس التي شملت تعديلات على السلطة القضائية، غُلِّفت بالسرية المطلقة في كل مراحل إعدادها، عدا عن حالة انعكاس تضارب المصالح التي جاءت بها بعض النصوص التي تنتهك مبدأ المساواة أمام القانون والقضاء.
وأكدت النقابة في بيان لها، أول من أمس الثلاثاء أن التعديلات تتضمن صياغة مؤسسة على مقاس المتناحرين على رئاسة مجلس القضاء الأعلى والمحكمة العليا والمحكمة الإدارية العليا.
وأوضحت أن التعديلات تُعَدُّ انتهاكًا للقواعد الدستورية الناظمة لعمل السلطات الثلاث، وفيها إحكام قبضة السلطة التنفيذية على الشأن القضائي خارج إطار مبدأ الفصل بين السلطات ومبدأ سيادة القانون.
انتهاك سيادة القانون
كما استنكر تجمُّع المؤسسات الحقوقية "حرية" إصدار عباس سلسلة من القرارات بقانون غير الدستورية، وعدَّها استمرارًا لسياسة التغوُّل على السلطة القضائية والسيطرة على إرادتها وغير دستورية.
وقال التجمع: إن هذه القرارات تنتهك مبدأ سيادة القانون والفصل بين السلطات ويكرِّس تبعية وهيمنة السلطة التنفيذية على القضاء، ويُعدُّ اعتداء على استقلاليته".
وانتقد التجمع، توقيت إصدار القرارات بقوانين، إذ تتهيَّأ الساحة الفلسطينية لإجراء انتخابات عامة لتجديد الشرعيات، وإحياء دور المجلس التشريعي، وملء الفراغ التشريعي القائم بسبب حل المجلس التشريعي المنتخب، وعليه فإن تجمع المؤسسات الحقوقية يطالب بإلغاء القرارات بقانون، التي تمس استقلال القضاء ويؤكد أن المجلس التشريعي الفلسطيني هو صاحب الاختصاص بإجراء التعديلات على القوانين وإقراراها.
وشدد على استقلال السلطة القضائية، وعدم جواز تدخُّل السلطة التنفيذية بعمل السلطة القضائية بأي شكل من الأشكال، وفقًا للقانون الأساسي والقوانين ذات العلاقة.
كما طالب بالإسراع في إجراء الانتخابات واستعادة المجلس التشريعي لدوره ومهامه التشريعية، واحترام مبدأ الفصل بين السلطات، وإتاحة المجال للسلطة التشريعية لاستعادة دورها، والتوقف نهائيًّا عن التدخل في صلاحيات السلطة التشريعية وتعطيل دورها.
وشدد كذلك على ضرورة احترام القانون الأساسي ومراجعة كل القوانين التي صدرت بقانون من المجلس التشريعي، "والإسراع في إجراء الانتخابات التشريعية وإتاحة الفرصة للسلطة التشريعية بالقيام بمسئولياتها ودورها في التشريع ومراقبة تنفيذ القوانين".
إلغاء فوري
وطالب الائتلاف الأهلي لإصلاح القضاء وحمايته، والهيئة المستقلة لحقوق الإنسان "ديوان المظالم"، في بيان مشترك، بالإلغاء الفوري للقرارات بقوانين الثلاثة ووقف جميع آثارها، وأن يكون أي تعديل على قانون السلطة القضائية، أو إصدار أي قوانين جديدة تُعنى بتنظيم شؤون القضاء من صلاحية المجلس التشريعي المنتخب ووفقًا للإجراءات المقررة في القانون الأساسي.
ودعا البيان إلى ضرورة تشكيل مجلس قضاء أعلى دائم وفقًا لنصوص قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002 ساري المفعول، على ألا يكون في هذا المجلس أي عضو من أعضاء مجلس القضاء الأعلى الانتقالي، باستثناء نص قانون السلطة القضائية لسنة 2002 على عضويتهم فيه بصفاتهم الوظيفية.
وطالب الفصائل والقوى السياسة ونقابة المحامين باتخاذ موقف واضح وصريح يرفض هذه القرارات بقوانين، وتوفير جميع الأجواء الإيجابية لإجراءات الانتخابات العامة.
وأعربت المؤسستان الحقوقيتان عن خيبة أملهما من موقف رئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي من القرار بقانون المعدل لقانون السلطة القضائية والقرارات بقوانين الأخرى.
كما عبَّرتا عن خشيتهما من أن يشكِّل إصدار هذه القرارات بقوانين في وقت الحديث عن قُرب إجراء الانتخابات العامة لأول مرة منذ خمسة عشر عامًا، عرقلةً حقيقية للحوار الوطني الفلسطيني وتعكير للأجواء الإيجابية في هذا السياق على نحو قد يتعطل معه هذا الاستحقاق الشعبي والوطني والدستوري.
ضرورة غير متوفرة
وأكد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أن إصلاح السلطة القضائية يكون بضمان استقلالها عن السلطة التنفيذية في المقام الأول.
وشدد المركز في بيان له، على أن تدخُّل عباس في شؤون السلطة القضائية بدعوى إصلاحها في ظل ظروف سياسية معقدة، يتطلع فيها الجميع لإنهاء الانقسام وإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية المستحقة منذ عام 2010، يساهم في تقويض استقلاليتها وزعزعة الثقة فيها وليس اصلاحها.
ويأتي هذا القانون، الذي تضمن 33 مادة معدَّلة لأغلب الأحكام الواردة في القانون الأصلي، في ظل ترقُّب الجميع لإصدار الرئيس الفلسطيني، مرسومًا يحدد موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية، بعد توافق طرفي الانقسام لعقدها.
وطرح المركز تساؤلات حول الهدف الحقيقي من التسرع في إصدار مثل هذه القوانين في هذا الوقت، بدلًا من ترك مهمة التشريع والإصلاح القضائي للهيئات المنتخبة من الشعب الفلسطيني، وخاصة أن قانون السلطة القضائية لسنة 2002 يُعدُّ -وفق أغلب خبراء القانون- من أفضل القوانين في المنطقة.
وبيّن أن ذلك يتعارض مع فكرة "الضرورة القصوى"، وهي الشرط اللازم في المادة 43 من القانون الأساسي لإعطاء الرئيس حق إصدار قرارات بقانون.
وشدد المركز على أن عدم إشراك مؤسسات المجتمع المدني، بما فيها نقابة المحامين الفلسطينيين ومؤسسات حقوق الإنسان، في مناقشة مثل هذا القانون الحساس والمهم قبل إقراره، غير مقبول، وخاصة في ظل اضمحلال الشرعية للمؤسسات القائمة في ظل التخلف لأكثر من 10 سنوات عن إجراء الانتخابات المستحقة.