تترابط المواقيت والأحداث أحيانا بقدر من الله سبحانه وتعالى لتتحدد فيها مآلات أمور تجري في هذا العالم الذي نعيش أحداثه وتفاصيله لحظة بلحظة، في ظل ثورة تكنولوجيا الاتصالات التي جعلت من العالم كله رقعة من المعدن لا يتجاوز أطولها مساحة كف اليد الواحدة، فالتواريخ والمواقيت تُصنع فيها أحداث التاريخ، ولها دلالات وخفايا قد لا يدركها المرء إلا بعد أن تفصح عن نفسها وقد تغيرت فيها مصائر أمم وشعوب، ومن هذه التواريخ ما بقي محفوراً في ذاكرة الشعوب لِعِظَم أو أهمية الحدث الذي تم فيه، وربما أدرك رئيس وزراء الاحتلال السابق إسحاق رابين هذه الحقيقة عندما صرح تصريحه الشهير بأن (لا مواعيد مقدسة لديه) ولعله صرح بذلك خوفا من أن يجرى في موعد ما حدث يؤثر في مصير شعبه دون أن يدرك خطورته إلا بعد فوات الأوان.
على كل الأحوال في فلسطين تنتظر الفصائل الفلسطينية ومن خلفها الشعب الفلسطيني المراسيم الرئاسية بتحديد موعد الانتخابات للمجلس التشريعي والرئاسة والمجلس الوطني، وحسب ما أعلنت وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية، يوم السبت الماضي، بأن الرئيس محمود عباس، سيصدر مراسيم الانتخابات في موعد أقصاه 20 يناير/ كانون الثاني الجاري، متوافقة بذلك مع تاريخ تنصيب جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية. لست أدري ما الذي دفع أبو مازن لتحديد يوم 20 يناير على وجه الخصوص لإصدار المراسيم الرئاسية؟ وما دلالة هذا التوقيت؟ ولكن تحديد هذا التاريخ بالذات يؤدي للربط بين تاريخ إصدار مراسيم أبو مازن وتاريخ تنصيب جو بايدن ولذلك وجوه عدة.
يوم 20 يناير هو يوم التنصيب لجو بايدن رئيسا ًللولايات المتحدة، وسيكون اليوم الأخير لترامب في سدة الرئاسة، وحتى اللحظة الأخيرة سيبقى الديمقراطيون وأنصارهم وعدد من الجمهوريين متوجسين من ترامب مخافة أن يقدم على تصرف –وهو المعهود عنه بعدم توقع تصرفاته- يقلب الطاولة ويفسد على الديمقراطيين فرحتهم، لذا فهم يلوحون بالعزل والمحاكمة البرلمانية، وما زال هناك تخوف كبير من أن يحدث يوم التنصيب ما لا يرغب به الديمقراطيون من فوضى تشبه الفوضى التي حدثت يوم السادس من يناير الماضي، حينما اقتحم أنصار ترامب مبنى الكونغرس، وبالتالي تتعطل عملية التنصيب وتتسع الهوة أكثر مما عليه الآن بين أنصار الحزبين الأكبرين وما يعنيه ذلك من تأثير كبير في مسار الحياة الديمقراطية الأمريكية، الأمر الذي دفع نانسي بلوسي للقول: "إن وضع هذا الرئيس المختل بلغ أقصى درجات الخطورة، وعلينا أن نفعل كل ما في وسعنا لحماية الشعب الأمريكي من هجومه غير المتوازن على بلادنا وديمقراطيتنا".
يوم 20 يناير من المفترض أن يكون يوم انطلاق العملية الديمقراطية في فلسطين، المعطلة منذ 2009 حتى اليوم، والتي لم تفلح كل لقاءات المصالحة والوساطات الإقليمية والدولية في إدارة عجلتها، في فلسطين كل الفلسطينيين متوجسون من مسألة إصدار المراسيم الرئاسية لسبق تجربة فاشلة خاضها الفلسطينيون، وذلك عندما امتنع "أبو مازن" عن إصدار المرسوم الرئاسي بتحديد موعد الانتخابات، بعد أن قدمت كل الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس تصريحا مكتوبا -حسب شرط "أبو مازن"- بالموافقة على إجراء الانتخابات، ولكن "أبو مازن" نكص على عقبيه وتخلى عن وعوده، ولم يصدر المرسوم الرئاسي وكأنه نطق بلسان حال رابين" أن لا مواعيد مقدسة لديه"، وبقى الأمر معلقاً، حتى دارت عجلة الحديث عن الانتخابات من جديد "بالتصريح المكتوب أيضًا" الذي قدمه السيد/ إسماعيل هنية لأبي مازن، يعلن فيه موافقته على إجراء الانتخابات بالتوالي والترابط عوضاً عن التزامن، وبضمانات روسية تركية قطرية مصرية أردنية. ولذلك ينتظر الفلسطينيون ذلك اليوم بشوق وتوجس، خوفاً من أن يمارس أبو مازن لعبته المفضلة بالتذرع بأي سبب كان للامتناع عن إصدار المرسوم الرئاسي بتحديد موعد الانتخابات، وتعود الأمور إلى سابق عهدها من الجمود الذي دمر الحالة السياسية الفلسطينية وقدم نموذجا سيئاً لا يليق البتة بعظمة الشعب الفلسطيني.
إذا مر 20 يناير بسلام في أمريكا سيصبح عصر ترامب من التاريخ ولن يذكره العالم إلا بالسوء، وسيكون درساً للأمريكيين –ولو كان قاسيًا- بضرورة حسن الاختيار وعدم الانخداع بالشعارات الشعبوية، التي أثبتت التجربة على مدار التاريخ أنها لا تعود على الشعوب إلا بضرب الاستقرار المجتمعي والفساد السياسي والتردي الدستوري والقانوني.
كذلك إذا مر 20 يناير بسلام في فلسطين فإن مرحلة الانقسام ستصبح من التاريخ، ونأمل أن تعود للشعب الفلسطيني وحدته، وللنظام السياسي الفلسطيني قوته، وللقضية الفلسطينية مركزيتها، وستكون مرحلة الانقسام درسا جيدا -على قسوته- وسيتعلم الشعب الفلسطيني أن يختار الأصلح لقيادته، والأصلح لصون قضيته، والأصلح للمحافظة على إرث أبطاله الذين ضحوا في سبيل كرامته وحريته، ولن يقبل الشعب الفلسطيني بالعودة مرة أخرى للوقوع في بئر التفرد والتسلط والفساد، وسيحرص أن يكون هو صاحب الكلمة الفصل في مصير الوطن دون أن ينازعه في ذلك أحد، مهما ادعى الحرص على القضية والشعب، فالشعب هو الذي يمنح السلطات وهو الذي ينزعها ولن يقبل بأن يساوم على هذا الحق مرة أخرى.
الشعب الأمريكي والشعب الفلسطيني ينتظران يوم 20 يناير بين الخوف والرجاء، فلكل منهما قلقه وأمله، وسيكون ليوم 20 يناير ما بعده لكل منهما، فإما الاستقرار والانطلاق نحو المستقبل بسلام، وإما مزيد من الانقسام والتشظي، ونأمل أن تكون الأولى، ولننتظر سوياً.