ما زالت الساحة الفلسطينية في مخاض ولادة عسير، الساحة الفلسطينية تتعرض لتيارات متعاكسة غالبًا، ولتيارات متداخلة أحيانًا. جهات أجنبية تطالب عباس بانتخابات لتجديد الشرعيات حتى يتسنى لها التعامل مع السلطة. وجهات أجنبية تطالب عباس بقمع الفساد في مكونات السلطة حتى تتمكن من مواصلة مساعدة السلطة ماليًّا، وجهات أخرى تطالب عباس بانتخابات لا تفوز فيها حماس، ولا تكون فيها ثُلُثًا معطِّلا، ومثل هذه التيارات كانت تيارات التطبيع العربي عبْر صفقات تجارية ومصالح قطرية على حساب القضية، وأغرقت فلسطين: سلطةً، وفصائل، وشعبًا، في دوامة وفي ردود أفعال متباينة.
ثمة من يزعمون أن أمريكا تضغط باتجاه الانتخابات؛ لأنها تريد مساحة ديمقراطية في فلسطين، وهذا مردود بقراءة الواقع في المعاملات الأمريكية، حيث أجرت أميركا صفقات غاية في الأهمية مع أنظمة ديكتاتورية، ودعمت سلطات عميقة ضد توجهات الشعوب نحو الديمقراطية، وهكذا فعلت دولة الاحتلال التي كانت تبثُّ مزاعم أن غياب الديمقراطية في البلاد العربية يهدِّد أمنها، في حين هي تأخذ الديكتاتورية العربية بالأحضان!. لذا فإن ما قيل عن ضغوط أمريكية وغربية على عباس من أجل إجراء انتخابات تبقى مزاعمَ لا تملك أدلة مقنعة، وليس هناك تصريحات حيَّة من الجهات التي تنسب إليها هذه المزاعم.
أما عن مزاعم الطلب من عباس بقمع الفساد ومحاسبة المفسدين، فهذا قولٌ فيه نظر، على الأقل في عمليات التطبيق الجارية، إذ يمكن تصنيف الفساد إلى قسمين: قسم هو فساد في نظر عباس وهذا تجري له الآن عمليات محاسبة بطرق متباينة، والقسم الثاني هو فساد في نظر الشعب، دون نظر الرئيس، وهذا يسكت عنه عباس ولا يخضعه للمحاسبة!
ومن ثَم نقول: الفساد في فلسطين هو فقط ما يراه الرئيس فاسدًا، أما ما يراه الشعب فاسدًا، فإن الرئيس لا يراه كذلك، فهل الدول المطالبة بقمع الفساد تدرك هذه القسمة؟! وهل هي معنية بتلبية مطالب الشعب في قمع ما يراه فسادًا؟! المسألة هذه فيها نظرٌ أيضًا. لا سيما وأن دول الغرب هي أول من زرع الفساد في البلاد العربية، ومعطيات التاريخ تُثبِت ما أقوله عن الفساد الذي نشره الغرب في بلادنا، ولعلَّ أكبر إفساد لهم كان زرعهم (إسرائيل) في فلسطين.
إن ما ليس فيه نظر هو أن صاحب القرار في الانتخابات وفي قمع الفاسدين شخص واحد، هو عباس وحده، وبلا شركاء له -لا داخل فتح والسلطة، ولا في خارج فلسطين- وهذا يتسلط على القسم الأول؛ لأن فاسدين كبارًا حول الرئيس يجلسون في حضنه الرئيس ويتمتعون برعايته، ولا منازع لهم، وهؤلاء بمعزل عن المحاسبة، وأظن أنَّ الشعب يعرف بعضهم، وإن هيئة الفساد تعرف أغلبهم.