ثمَّة حرب نفسية شعواء تُشنُّ على القضية الفلسطينية، وعلى الصراع العربي ضد الكيان الصهيوني. وذلك بالاعتماد على ما حدث من تطبيع افتتحه محمد بن زايد (الإمارات العربية) في توقيع اتفاق تحالفي مع الكيان الصهيوني، وإعلان الطلاق، عمليًّا، مع القضية الفلسطينية، وقد تبعه ملك البحرين على النهج نفسه، ثم السودان والمغرب، بإعلان فتح علاقات مع الحكومة الصهيونية، وتوقيع اتفاق بهذا الخصوص (المغرب).
تقول هذه الحرب النفسية: إنّ العرب ذهبوا، أو ذاهبون، جميعًا للتطبيع. وهذا هو المستقبل. طبعًا المبالغة مفضوحة لأننا إزاء أربع دول، حتى الآن، فيما هنالك ست عشرة دولة لم تذهب إلى التطبيع، إذا أضفت مع الفارق إلى الدول الأربع، دولتَي مصر والأردن باعتبارهما سبق وعقدتا معاهدتين. لقد مورست على كلّ الدول العربية والإسلامية ضغوط هائلة فاشلة من جانب إدارة دونالد ترامب لتوسيع دائرة المطبّعين، ولجعلها فعلًا ظاهرة حاكمة لمسار المستقبل. الأمر الذي يؤكد، على الأقل حتى الآن، أنّ هذه الدول رفضت، أو تجنّبت، أو اعتذرت، عن الدخول في خيمة الدولتين السابقتين لعقد اتفاقيتين على قياس ترامب - نتنياهو. فلماذا التطوّع باعتبارها ظاهرة عامّة، أو ظاهرة المستقبل؟
هذه الظاهرة التي يقال إنّها تعبير عن المستقبل تحقّقت بالنسبة إلى السودان تحت ضغط فاضح ومهين لرفع اسمه من قائمة الإرهاب، وهو بريء منها. ومع ذلك، تأجّل إجراء انتخابات وتشكيل حكومة غير انتقالية. وبالنسبة إلى المغرب، فقد قايض توقيع الاتفاق، بتغيير أمريكا لموقفها من قضية الصحراء، وهي مقايضة «أُنكرت» من جانب المغرب، لأنها حقيقة غير لائقة، وغير موثوقة، وهي مرفوضة من قطاع واسع من الشعب المغربي، وستكون لها ارتدادات معاكسة للتطبيع في المنطقة. فكيف يمكن الادِّعاء بأنَّ الوضع العربي على هزاله، وعلى ما يمكن أن يؤخذ عليه من مآخذ، بأنه ذاهب إلى التطبيع صفًّا، وما تحقَّق منه، عدا محمد بن زايد وملك البحرين، كان نحتًا في صخر، وبعد جهد جهيد وضعت فيه أمريكا كلَّ ما تملك من أوراق ضاغطة، بالإجبار أو بالإغواء.
في تقييم هذه الظاهرة الرباعية المستحدثة من قِبَل ترامب وصهره «النابه»، يجب أن تُقيّم بأنّها هزيلة وضعيفة ومعزولة، وتقف على أرجل خشبية، بالرغم من استحقاقها كلّ إدانة واحتقار. فبأي حقّ تُحوَّل إلى حرب نفسية توحي كأنها سكين يعبر في الزبدة، أو كأنها قطار مندفع لغايته ولا شيء سيوقفه. يعني أننا هنا أمام «الفاجر الذي يأكل مال التاجر»، وأمام وهم كبير يقول إنّ الدول العربية جميعًا ذاهبة، أو متسابقة، على التطبيع.
الذين ينشرون هذا الوهم يأملون في أن يخدعوا البعض من خلاله بالقول: «ما دام الكل ذاهب لماذا لا نلحق نحن أيضًا». وبهذا يكون بين أيدينا نموذج لحرب نفسية مفبركة تريد أن تكسب الحرب بنشر الوهم والخوف بأرخص السبل.
ما دام الذين ينشرون هذا الوهم يتحدثون عن المستقبل. حسنًا لننظر ماذا يخبّئ الحاضر الذي سيخرج منه المستقبل الذي سيكون على غير ما يشتهون، ولسوف يرون من طبّعوا في حالة فشل، أو في مأزق سياسي مع شعوبهم، أو في مأزق على أية حال.
أولًا، أمريكا التي وراء المشروع الذي يراهنون عليه، أسقطت عرّابه دونالد ترامب من الرئاسة لدورة ثانية، والآتي، بالتأكيد، لن يستخدم الأسلوب ذاته ولا السياسة ذاتها، ولن تخرج النتائج نفسها. ثانيًا، تواجه أمريكا انقسامًا داخليًا عميقًا سوف يُضعفها أكثر، ويزيد من إرباكها أكثر. ومَن شكَّ في هذا، فالحكم في قابل الأيام. ثالثًا، هذه الأمريكا تواجه منافسَين خطرَين لا يستطيع الرئيس الجديد جو بايدن ألّا يضعهما في أولوية استراتيجية إدارته. فالصين على أبواب التحوّل إلى المقام الأول عالميًا مكان أمريكا في حجم الإنتاج الكلّي. وأصبحت منافسًا سبّاقًا خطرًا في تكنولوجيا الاتصالات والذكاء الاصطناعي، فضلًا عمّا تملكه من دولار جاهز للإنفاق يزيد عمّا بيَد أمريكا وينافس مطبعة الدولار. وقد أصبحت الصين عصيّة أيضًا أمام التحدّي العسكري.
أما المنافس الثاني، فهو روسيا التي راحت تسابق أمريكا بقدراتها الصاروخية والتكنولوجية العسكرية، وتوسِّع نفوذها السياسي مدعومة بتحالف مع الصين، إذا ما أرادت أمريكا شنّ حرب باردة، أو حرب تأزيم مع الطرفين. وهذه الحرب، بدورها، إن لجأ إليها جو بايدن ستغيّر الكثير من معادلة ميزان القوى في المنطقة، عندنا، في غير مصلحة «ظاهرة التطبيع»، أو ظاهرة محاصرة إيران ومحور المقاومة، لأنّ الصين وروسيا ستزيدان من دعمهما. الأمر الذي يسقط ما يُشنّ، الآن، من حرب نفسية تروّج بأنّ ظاهرة التطبيع العربي ماضية كالسكين في الزبدة.
رابعًا، قبل أن يجفّ حبر التواقيع التي حملتها اتفاقيات التطبيع الأربع، انهار تحالف بنيامين نتنياهو مع «أزرق -أبيض»، وحُلّ الكنيست، وأُعلن عن انتخابات جديدة، وانقسم حزب «الليكود»، وغدا نتنياهو واقفًا على شفير الانهيار أمام النائب العام الذي قدّم ضدّه دعوى فساد تتهدّده بالسجن.
إنّ الكيان الصهيوني يواجه انقسامات حادّة، ستسفر عنها الانتخابات المقبلة، وسيواجه ارتباكًا بوجود نتنياهو أو بسقوطه. ويكفي أنه لم يعد بقادرٍ على تحريك الجيش، وإعلان الحرب لفرض إرادته على البلاد العربية، كما كان الحال في الماضي. فعلى أي أساس تقوم تلك الحرب النفسية القائلة إنّ كلّ الدول العربية ذاهبة إلى التطبيع، أو أكثرها، فيما المعادلة الراهنة لموازين القوى جعلت الموقِّعين على تلك الاتفاقيات يدورون في المكان المكلّل بالفشل، والضجّة الإعلامية لا تغيِّر من الواقع شيئًا؟
بكلمة، أمريكا بانتظار بايدن وماذا سيعمل بمعالجة الانقسام الداخلي والمنافسة الدولية الخطرة، ونتنياهو اليائس بانتظار أن يفعل ترامب شيئًا قبل 20 كانون الثاني/ يناير، في مواجهة إيران ومحور المقاومة، والكيان الصهيوني المنقسم على نفسه بانتظار الانتخابات المقبلة، التي قد تفاقم وضعه الداخلي أكثر. والمنتظر لا يعمل ولا يعرف ما يعمل.
أمّا الصين وروسيا، فلا انتظار، وماضيتان في برامج التطوّر الداخلي والإعداد لأيّ تطوّر مع مجيء جو بايدن. وإيران ومحور المقاومة تحت الاستنفار لاستقبال أيّ عدوان يلوّح به ترامب، فيما يُعدّان لكيفية مواجهته، وبهذا سيأتي جو بايدن في الحالين ضعيفًا.
باختصار، ثلاث في حال انتظار، وثلاث في حال استعداد وإعداد، وثمة منظرٌ ثالث مدهش: قيادة الجيش الصهيوني تراقب، لأول مرّة في تاريخها، مناورة عسكرية تجريها فصائل المقاومة، بسلاحها، وصواريخها، وحركتها التكتيكية في قطاع غزة، فيما كانت في الماضي هي وحدها التي تقوم بالمناورة العسكرية متهدّدة متوعّدة، والآخرون يراقبون ويتحسّبون، ويسألون: "ما وراء المناورة؟".
حقًّا سبحان مغيّر الأحوال، رضي من رضي، وأبى من أبى. وما سيحكم المستقبل ليس الوهم والحرب النفسية، وإنّما موازين القوى والفاعلون في الميدان. أمّا المنتظرون فيا تعسهم إذا لم يأتِ مَن، وما، ينتظرون.