كان المغرب من الدول المقترحة من طرف الصهيونية العالمية وطنًا قوميًّا لليهود منذ سنة 1903م، وبدأت العلاقات السرّية بين المغرب والكيان الصّهيوني تتكشّف منذ بداية الستينيات عند تولّي الحسن الثاني العرش، وكان الحدث الأبرز في ذلك هو التعاون مع الموساد على اغتيال المعارض المغربي المهدي بن بركة في باريس يوم 29 أكتوبر 1965م، رغم المخاطرة بخرق السّيادة الفرنسية على أراضيها في عهد ديغول.
الحسن الثاني الذي خصّص جناحًا للموساد بالفندق الذي عقدت فيه القمة العربية بالمغرب سنة 1965م، التي مكّنته من رصد جميع المواقف العربية ومدى جاهزيتها للحرب على (إسرائيل)، وهو ما أغرَاها بإلحاق الهزيمة بها في حرب 1967م، في 22 جويلية (يوليو) 1986م استقبل الحسن الثاني رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها شمعون بيريز في العاصمة الرّباط، وبعد اتفاق أوسلو في سبتمبر 1993م سارع المغرب إلى ترسيم العلاقة وتفعيل روابط التطبيع وفتح مكاتب الاتصال الثنائية مع الكيان الصهيوني سنة 1994م، لتمكين يهود المغرب من عودتهم إلى وطنهم الأم، وهو ما يمثّل الاعتراف الضّمني الرّسمي بـ(إسرائيل)، وأصدرت (إسرائيل) طابعًا بريديًّا يحمل صورة الملك الحسن الثاني بعد وفاته سنة 1999م للمكانة التاريخية التي يحظى بها عند اليهود، إلا أنّ تلك الرّوابط تجمّدت سنة 2000م عقب اندلاع الانتفاضة الثانية.
وفي 1 سبتمبر 2003م زار وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم المغرب، والتقى الملك محمد السادس، وفي 4 جوان (يونيو) 2007م التقت وزيرة الخارجية الإسرائيلية حينها تسيبي ليفني نظيرها المغربي محمد بن عيسى في باريس، وفي 4 سبتمبر 2009م بحث الملك محمد السّادس عبر الهاتف مع رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها المجرم أرييل شارون خريطة الطريق لـ"السّلام" في الشرق الأوسط.
هذه المحطّات المعلنة وغير المعلنة وغيرها في العلاقة التاريخية بين المغرب والكيان الصّهيوني لم تفاجئ العالم بإعلان الرّئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم 10 ديسمبر 2020م اتفاق التطبيع، وتوقيع مرسوم الاعتراف بـ"سيادة" المغرب على الصّحراء الغربية، الذي عدته المغرب استئنافًا للعلاقات السّابقة لا تطبيعًا، فما المخاطر التي تنطوي عليها هذه الخطوة المشؤومة التي تتجاوز في شكلها ومضمونها ما يسمّى التطبيع؟
هناك دلالات رمزية فيمن مثّل الجانب الصّهيوني في هذا التوقيع، وهو مائير بن شباط مستشار الأمن القومي للكيان الصهيوني، وهو يهوديّ مغربي الأصل، ما يدلّ على الطّابع الأمني والعسكري لهذا التطبيع، وهو ما يشكّل تهديدًا خطرًا للقضية الفلسطينية والجزائر والعالم العربي والإسلامي، كما يشكّل فخًّا وثغرة للمغرب في المستقبل.
إنّ هذا التوقيع هو أخطر أنواع التطبيع، إذ إنه -حسب بيان الديوان الملكي- يندرج ضمن: (الرّوابط الخاصّة التي تجمع الجالية اليهودية من أصل مغربي -ومنهم الموجودون في (إسرائيل)- بشخص العاهل المغربي)، وهو ما يؤكّد هذا التمازج الدّيني العِرقي الذي سيوثّر مستقبلًا في صناعة القرار.
إنّ الجالية اليهودية المغربية في الكيان الصهيوني تقارب المليون، ويسافر إلى المغرب نحو 50 ألف يهودي سنويًّا، وهو ما يعني الاندماج الاجتماعي وليس التطبيع السياسي والديبلوماسي فقط، وهو ما سينذر بالفخّ الديمغرافي الإثني النّاجم عن التطبيع، فهو لا يرتبط بالأهمية العددية، بل بموقع الإثنية على سُلّم القوّة والتأثير داخل المجتمع، وإنه سيعقّد العلاقات بين بلدان المغرب العربي، ويفتح جبهة لمخاطر متعدّدة الأبعاد، ومنها إسقاط حلم اتحاد المغرب العربي وإمكانية فتح الحدود.
أيضًا توقيع الأمين العام للحزب الإسلامي المشكِّل للحكومة هذا الاتفاق يمثّل خطوة غاية في النّذالة والخيانة للقضية الفلسطينية، إذ يُعدُّ انقلابًا على الثوابت الدّينية والفكرية والسّياسية، وخرقًا للإجماع بين صفوف الحركة الإسلامية في العالم تجاه هذه القضية المقدّسة ولأوّل مرّة، وما يترتّب على ذلك من اهتزاز تلك الرّمزية والمصداقية والشرعية، وهي آثار متعدّية لا تتوقّف عنده فقط.
إنّ هذا التوقيع هو الأخطر، لأنه جاء في ظلّ حكومة نابعة من الإرادة الشّعبية لحزب العدالة والتنمية، بخلاف المطبِّعين الآخرين، وهو ما يفرض مسؤولية شعبية مغربية مضاعفة من داخل الحزب ومن الحاضنة الشعبية له ومن الشّعب المغربي بأكمله، ومع أنّ قرار التطبيع ومسؤولية السّياسة الخارجية والعلاقات الدولية من صلاحيات الملك، ومع أنّ رئيس الحكومة لم يكن يعلم بهذه الخطوات التطبيعية، بل كان ضدّها، فقد قال في 24 أوت (أُغسطس) 2020م: "إنّ المغرب يرفض أيّ تطبيع مع الكيان الصّهيوني، لأنّ ذلك يعزّز موقفه في مواصلة انتهاك حقوق الشعب الفلسطيني"؛ أذلّ الملك الحزبَ وورّط أمينه العام بالإصرار على توقيع اتِّفاق التطبيع بنفسه، فأصبح شريكًا في هذه الجريمة التاريخية.
وإذا كان النظامُ الملكي المغربي يختبئ في شرعيته ويتدثّر بالعباءة الدّينية، إذ الملك هو "أمير المؤمنين"، وينتمي إلى السّلالة العلوية التي ينتهي نسبُها إلى الإمام علي (رضي الله عنه)، وهو ما يُعدّ عاملًا معزِّزًا للشرعية على أساس العُرف والتاريخ والدّين؛ فإنّ استطلاعًا لقياس مؤشّر الرّأي العام العربي أثبت أنّ 88 من المائة من الشعب المغربي لا يعترفون بـ(إسرائيل)، وهو ما يجعل قرار التطبيع فخًّا للشّرعية الشّعبية للملك وللحكومة معًا.
ومن أخسّ مظاهر هذا التطبيع المغربي هو بيع القضية الفلسطينية بقضية الصّحراء الغربية، بوَهم اعتراف ترامب المنتهية ولايته بالسّيادة المغربية على الصّحراء الغربية، وهو ما يعد تنازلًا مقابل تنازل، وبذلك هو من أنذل أنواع التطبيع أخلاقيًّا وقانونيًّا وحضاريًّا وسياسيًّا، فهو حسب ما جاء ببعض الصّحف الصّهيونية اليسارية: "احتلال مقابل احتلال"، وهو بمنزلة نقطة سوداء في المخيّلة الشّعبية المغربية، إذ سيقولون: "أخذنا الصّحراء مقابل بيع فلسطين"، وقد وصل الأمرُ ببعض المغاربة المناهضين لهذه الخطوة المشؤومة أنهم قالوا: "إنّ مَن تخلّى عن فلسطين لا يمكن أن يؤتمَن على الصّحراء الغربية".
وسيبوء المغرب بإثم هذا التطبيع، وسيكون ملزَمًا به وبكلّ تبعاته، أمّا قضية الصّحراء الغربية فلن ينال منها ما يريد، لأنّها تتجاوز القرار الأرعن للهالك انتخابيًّا (ترامب)، فهناك جدل أمريكيّ مشكِّك في قانونية إعلانه "مغربية" الصّحراء؛ فالصّيغة القانونية المسماة "الإعلان الرّئاسي" تحمل الصّبغة الرّمزية الاحتفالية، وتفتقر إلى القوّة القانونية ما لم يصدّق عليه الكونغرس الأمريكي، وبذلك هذا الإعلان لا يعدّ إلزاميًّا للإدارة القادمة.
هناك صفاقة ممجوجة في التسويغ لهذا التطبيع بأنّه "لمصلحة القضية الفلسطينية"، مع أنّه يندرج ضمن صفقة القرن برعاية أمريكية مباشِرة، وهو ما يعني تصفية القضية والاعتراف بيهودية الدولة والقضاء على المقاومة وإيجاد وطن بديل للفلسطينيين، وأنّه سيُخفي الجرائم التاريخية للصّهاينة بحقّ العرب والفلسطينيين، وسيجمّل الوجه القبيح لهم، وقد قالت الفصائل الفلسطينية: "إنّ اتفاق التطبيع المغربي مع (إسرائيل) طعنة في ظهر أمّتنا وخيانة لفلسطين وللمدينة المقدّسة".
إنّ هذا التطبيع المغربي معناه استدعاء الوجود الصّهيوني إلى قلب المغرب العربي وإلى شمال إفريقيا وإلى حدودنا، بذلك التحالف والاندماج الاستخباراتي والأمني والعسكري مع هذا الكيان السّرطاني، ما يشكّل تهديدًا وجوديًّا للأمن القومي الإستراتيجي للجزائر، وما سيتسبّب فيه من الفتن وتهديد الأمن والاستقرار في المنطقة، خاصّة عندما يقايض بقضية الصّحراء الغربية، التي تحرص هذه الدول الاستعمارية على إبقائها قضيَّة خلافية للابتزاز والضّغط، وملفًّا لمساومة الأنظمة على البقاء في الحكم مقابل هذا التطبيع.