السؤال المطروح في العنوان ذو أهمية استثنائية، ففي الجواب عليه، ومن ثم في البناء على الشيء مقتضاه، يعتمد مصير الحركة الوطنية الفلسطينية والقضية التي تناضل من أجلها.
لا يتم إصلاح الكيانات البشرية إلا بوجود أحد الشرطين: الأول، توفُّر النيّة الحقيقية والإرادة الفعلية لدى جميع الأطراف المعنية؛ والثاني، أن يكون لدى الساعين للإصلاح القوة الكافية (الشعبية، القانونية، الشرعية، المركز الوظيفي أو الاجتماعي...) لفرض رؤيتهم. في الحالات الطبيعية، الإصلاح عملية روتينية، يجريها المعنيّون باستمرار، حتى لا يتهالك البُنيان مع الزمن، فيصبح ترميمه مكلفاً جدّاً أو غير ذي جدوى.
أمّا وقد وصل وضع المنظمة إلى ما وصل إليه، وما عاد الشعب الفلسطيني يملك ترف الوقت للمماطلة، وهو أمام استحقاقات مصيرية، ولأنّ العدو مستمرٌّ، وبشكلٍ متسارع، في تفكيك عناصر القوة لدى الشعب الفلسطيني، تمهيداً لفرض حلوله الخاصة، فقد بات واجباً اتخاذ موقفٍ واضحٍ من الإصلاح، وبناءً عليه، الشروع في إجراءات عملية فورية بمستوى متطلّبات المرحلة.
«إنّ صيغة منظمة التحرير، بأوضاعها الملموسة القائمة، لا تُشكّل أساساً متقدّماً للوحدة الوطنية، وطُرِحَتْ صيغة الجبهة الوطنية بديلاً عن صيغة إطارات المنظمة، إلّا أنّ منظمة التحرير أصرّت على صيغتها تحت شعار، كون منظمة التحرير، منظمةً رسميةً معترفاً بها من جميع الأنظمة العربية». هذا المُقتطَف مُقْتَبَسٌ من الدراسة النقدية للجبهة الديمقراطية الصادرة في عام 1969، بعنوان «حركة المقاومة الفلسطينية في واقعها الراهن». وفي مقدّمتها، يقول نايف حواتمة: «إنّ حركة المقاومة تعيش أزمة تكوينية حادّة».
هذا هو حال المنظمة وحركة المقاومة قبل نصف قرن، بحسب حواتمة، فكيف هو، إذن، اليوم؟ ما زلنا نجترّ الوصفة ذاتها: حوار الفصائل تلو حوار، فنسمع جعجعة ولا نرى طحيناً. فلماذا تَبُوءُ كل محاولات الإصلاح بالفشل؟ للإجابة عن السؤال، لا بدّ من النظر في آليات الإصلاح الداخلية وهي:
- اتفاق (صادق ومخلص) بين فصائل المنظمة، على برنامج للإصلاح وخطة تنفيذية، يقرّهما المجلس الوطني وتنفّذهما اللجنة التنفيذية.
- أن تنشأ أكثرية في المجلس الوطني، معنية بالإصلاح، فتُقِرُّ برنامجاً إصلاحيّاً وتفرضُ تطبيقه على اللجنة التنفيذية.
في كلتا الحالتين، المجلس الوطني هو الأداة «الشرعية» والمفضّلة للقيام بهذا الواجب. لكن، تجربة «نصف القرن» لا تبشّر بالخير. فالتنظيمات المُشكَّل منها المجلس، قد برهنت، بكل ما لديها من مهارة، بأنّها غير صادقة وغير مخلصة أو عاجزة بخصوص الإصلاح، هذا من جهة؛ أما من جهة أخرى، فإنّ افتقار المجلس الوطني لآليات التجدُّد الذاتي، أي انتخاب الأعضاء من قبل الشعب مباشرة، يعيدنا إلى الفصائل نفسها، والتي تمثّل سدّاً منيعاً أمام الإصلاح. إذن، هي حلقة مفرغة، ندور وندور فيها، ولا مخرج.
لتشخيصٍ سليمٍ لما يجري داخل المنظمة، لا بدّ من النظر إلى «الصندوق القومي»، ففيه تكمن علّة العلل، لأنّه تحوّل إلى أداة فسادٍ وإفساد. لقد بات الصندوق مصدرَ ضعفٍ بدل أن يكون مصدر قوة، لأنه يتغذّى من خارج الإطار الفلسطيني (الدول النفطية، والدول الغربية بتمويلها السلطة بعد أوسلو)، ولهذا ثمنٌ خَبِرناه جميعاً. وبما أنّ «القائد» هو الآمر الناهي في إدارة الصندوق، وجميع الفصائل تريد حصّة منه، وللحصة ثمنٌ سياسي، فلن يكون أمام طالب المال إلّا الرضوخ لمانحه، على قاعدة أنّ من مَلَك المال ملك القرار. والملاحظ، أنّ ما من فصيلٍ فلسطيني دخل المنظمة إلا وأصابه الضعف والوهن، حتى إنّ «فتح» ذاتها ما عاد لها لونٌ، وباتت بدون المنظمة (ولاحقاً السلطة) بلا شيءٍ يميّزُها.
مسألة أخرى، لا يمكن تجاوزها، هي الاعتراف العربي والدولي بالمنظمة ممثِّلاً شرعيّاً ووحيداً للشعب الفلسطيني. ربّما كان هذا أهم إنجازٍ للمنظمة، لكنّه غير مُكتمل، لأنّ تعاطي الدول معها، بهذه الصفة، متقلّب بتقلّب الظروف والأوضاع السياسية، ويمكن أن تُضرب هذه الصفة بعرض الحائط من دون أن تستطيع المنظمة القيام بأيّ ردّ فعل، لدرجة أنّ الأموال التي كانت تُجبى من الفلسطينيين في بعض الدول العربية لمصلحة الصندوق القومي، كانت تُحجب متى شاءت أية دولة ذلك، أو كانت تُعطى لفصيل معيّن لمآرب سياسية. وقد حصل غير مرّة، أنّ بعض الدول كانت تعترف بممثّلٍ للمنظمة غير معيّنٍ رسمياً من قبل القيادة، وهذه الأخيرة كانت أحياناً تفشل في سحب ممثلها، لأن الدولة التي هو فيها تريده أن يبقى.
وإذا أضفنا إلى ما سبق، فالمنظمة باتت بلا ميثاق، أي بلا أساسٍ دستوري، وهيئاتها (المجلسَان الوطني والمركزي واللجنة التنفيذية) منتهية الصلاحية منذ زمن بعيد. وهي لا تجتمع إلّا نادراً لغاية في نفس «القائد»، فماذا تبقّى منها عاملاً ليقوم بمهمة الإصلاح؟
أما بالنسبة إلى العلاقة بين المنظمة والسلطة والدولة، فهي مظهرٌ آخر من مظاهر الفساد السياسي الهادف للاحتيال على الشعب الفلسطيني وإبقائه تحت السيطرة؛ فإن اعترض أحدٌ على السلطة يرتضي بالمنظمة بديلاً، وإذا لم تعجبه المنظمة قد تستهويه الدولة، وفي كلّ الحالات يبقى في فلك «أولي الأمر». وبحسب ما يُشاع، فإنّ السلطة وليدة المنظمة وتابعة لها، لكن الواقع يشهد على عكس ذلك؛ فالسلطة مهيمنة، بالكامل، على شؤون المنظمة، وبات الصندوق القومي الفلسطيني يتغذّى من مالية السلطة التي تتكوّن، أساساً، من المساعدات الغربية والجمارك التي تجبيها "إسرائيل" لمصلحة السلطة (وهي تحجبها متى تشاء ولا تُفرج عنها إلا بشروط).
يظنّ البعض أنّ الإصلاح مطلبٌ نشأ بعد أوسلو، لذلك أودّ مشاركة القارئ ما ذكره د. حسام الخطيب، وكان عضواً في اللجنة التنفيذية للمنظمة (1969 - 1971)، في كتابه «في التجربة الثورية الفلسطينية» الصادر في عام 1971: «لا بدّ من تكرار عبارة روجيه غارودي لم يعد الصمت ممكناً. لقد حاول مؤلّف هذه السطور - كما حاول الكثيرون غيره - العمل على الإصلاح من داخل صيغ الثورة... ولم تكن النتيجة سوى إمعان الصيغ القيادية في الخضوع للعوامل المحيطة بدلاً من التمرّد عليها ومحاولة التحكم بها أو تعديلها لصالح المسيرة».
لكن هذا ليس نهاية الأمر، إذ أننا لم نتحدّث بعد عن الضغط الشعبي على طريقة «الشعب يريد» مُمثِّلاً صالحاً. لكنّ الاكتفاء برفع الصوت وبالتظاهرات والإضرابات والاعتصامات لا ينفع في الحالة الفلسطينية؛ لأنّنا لسنا في دولة، ولأنّ مصالح المُمْسكين بالقرار الفلسطيني مرتبطة بالتمويل والاعتراف الخارجيَّيْن اللذين يشكّلان المصدر الأساس لقوّتهم. على الرغم من كلّ هذا، ما زال أمام الشعب خيارٌ أخير.
إنه الخيار ذاته الذي بواسطته استطاعت المنظمات الفدائية أن تفرض على أحمد الشقيري الاستقالة، وبعد ذلك أن تتولّى هي قيادة المنظمة. لقد نجحت في ذلك، لأنّها شكّلت واقعاً قوياً خارج المنظمة، ما كان لأحد أن يقدر على تجاوزه. لا حلّ لواقع المنظمة غير السوي إلّا من خارجها، بالانتظام في تكتّلات ومنظمات مستقلّة وضاغطة، تناضل من أجل الحق الفلسطيني بكل الوسائل المتاحة. فإن رضخت القيادة للمسار النضالي الصحيح، تكون القوى الجديدة قد حقّقت هدف الإصلاح، وإن لم ترضخ تكون قد شقّت طريقها الخاص نحو فلسطين.