فلسطين أون لاين

همسة إليك (2)

...
الأسير سعيد ذياب

ما أسعد الحروف وهي تحظى بنظرة أخرى منكِ!، أما ترينها تتقافز تباعًا تريد كل واحدة منها لو تأملت فيها أكثر، ووقفت عليها بحثًا عن معنىً مختبئ بين الثنايا، أو فكرة تريد منكِ رفعها عن جماد السطور وبرودة الصفحات، والسماح لها بالدخول عبر لاحظيكِ، والسباحة في خليج خواطركِ وصولًا نحو برِّ أمانكِ ومنتهى حنانكِ، لترسو هناك وتتقدم بكل ثقة وافتخار كي تنقش نفسها على جدار جنانكِ، ولتنحني بعدها أمام عرشكِ المصون قائلة بكل تواضع وخجل: (اقبليني في جنتكِ، فإني همسة إليكِ)؟!

أخيتي، تتطور أنماط الحياة بتطور أدواتها، وتمتد جسور التعارف مع ارتقاء سلّم المعرفة، هذا منطق الأشياء وسياقها الطبيعي، أن تواكب ثورة التكنولوجيا والحداثة ثورة أخرى تبعث في نفوس مستخدميها، وهو شيء جميل وظاهرهُ حسنٌ ومقبول، فهل كان اختراع الكهرباء إلا انقلابا حقيقيًّا على حياة رتيبة سَمْتها البساطة والهدوء، ففتحت بضجيج مجيئها بابًا واسعًا –إن لم يكن الأوسع- في حياة البشرية، وأثرت تأثيرًا مباشرًا في كل ما تراه أعيننا وتلمسه أيدينا؟، نعم كانت نعمة؛ وكما كل شيء لها ضد ونقيض، واستخدام إن أُسيء تطويعه فإنه يصبح نقمة، فقد كان لها وجه بشع وآثار سلبية، فمع إقامة المعامل كان إنتاج القنابل، ومع بناء المدن وشق الشوارع والدروب، كثرت المجازر وسهل القتل وأصبح هناك فن الحروب، خلاصة القول: كان فيها الرخاء، وكان لها وجه جاء بالشقاء.

واليوم نحن نشهد ثورة أخرى تتعلّق بالاتصال البيني في حياة البشر، من طريق وسائل التواصل الاجتماعي، ونلمس قدرتها على تشبيك حياة الناس باتصال آني، ومشاركة الآخرين في أقاصي الأرض الهموم والانفعالات، وإمكانية دخول كل من يسكن هذا الكوكب ضمن هذه الدائرة الأوسع التي تجمع "إنسانيتهم"، بأحاسيسهم ومشاعرهم، بأفراحهم وأتراحهم، وعاداتهم وتقاليدهم، بخيرها وشرها، وأشياء أخرى كثيرة، فقد بات واضحًا الأثر الذي تتركه هذه الأدوات في نفوس الأفراد، وانسحابه على عموم المجتمع كله، ومدى التغيير الذي تحدثه في أنماط ومسلكيات مستخدميها، حسنًا أو قبيحًا.

مما لا شك فيه وجود جوانب خير كثيرة لهذه الوسائط التي تُثري المعرفة، وتسهل التعارف وتفتح آفاقًا للتواصل، وتعين على نشر الأفكار والقيم، وتعميم الفضائل والمحاسن، وبسط الثقافات على مائدة العالم ليأخذ منها كل طالب، ويستزيد من خيرها كل راغب، هذه جوانب جميلة وزوايا مشرقة أضاءت عليها مثل هذه الأدوات وأفادت منها، في حين جاء معها أوجه قبيحة، تتسلل خفية، وتتسرب بهدوء، لتستقر بصمت في نفوس مستخدميها، تدفع نحو الانزواء عن المجتمع، وعيش أكثر من دور، وتقمص أكثر من شخصية، وهو حديث يمتد ويطول، وتُفرد له الفصول والأبحاث العلمية التي تؤكد هذه النتيجة.

وبعد هذه التقدمة البسيطة لا أراني إلا بحاجة لمزيد استرسال أخاطبك فيه

أنتِ، ففي قلمي بعض من مدادٍ يريد انسكابًا أمام ناظريكِ، يبثكِ شيئًا من سبحات الخاطر، وفي النفس حروف تتزاحم كلها تريد أن تتشكل كلماتٍ تحمل إليكِ فُيوضات القلب وهمهمات السواتر.

كم هي رائعة هذه الأدوات وقد جلّت لكِ الدنيا وأرتكِ من جمالها، وطوَّفت بكِ بين محاسنها، قرَّبت إليك البعيد، وسهّلت لكِ التواصل والقبول، فازدحمت مخيلتكِ بالمشاهد البديعة والصور الجميلة، التفّ من حولكِ المُحبون، وتضاعف الأصدقاء ومن تشركينهم في سعادتكِ، وتقاسمينهم أحزانهم، تعلّقين هنا وتتركين أثرًا هناك، تغردينَ حينًا وحينًا تتصفحين، تقرئينَ مقولةً تعطيك شيئًا فتثري لديكِ فكرة، تمرّين في الأرجاء لأخذ الصور، وتضيفينها لقائمةٍ تطول من التقاطات شكّلت لكِ تاريخًا مصورًا مصغرًا تتشاركين فيه ومحبوكِ، تفزعين إليه ساعة قلقٍ وضيق، وتستظلين بها عند هبوب الذكريات وهياج المشاعر والانفعالات.

أصبح لديكِ عالمكِ الخاص، ومجتمعكِ الافتراضي الذي تمارسين فيه قناعاتكِ، وتشكلين في ثناياه شخصيتكِ وكينونتكِ، التي قد تخالف أحيانًا واقعكِ المعيش ومحيطكِ الأسريّ، وبدأت المصطلحات تأخذ معاني أخرى ويصبح لها حضور، وإن كان معنويًّا، فالصديق على (الفيس) طبيعي بحكم ضرورة الاستخدام، وإن كان شابًّا غريبًا وطارئ الدخول، أما واقعًا فربما غير موجود لطبيعة المجتمع.

أما المحاذير والحدود فقد أخذت في الذوبان والانصهار، لمصلحة الاندفاع هروبًا من الكبت وبحثًا عن مستمع، أي مستمع، فالحديث مع الشباب وفي كل الشؤون، واستعراض القدرات النفسية، والإبهار بالمكنون الأنثوي الفاتن بات يتحول إلى حالة إدمان، وربما تصل المغامرة لإرسال صورة أو مقطع مصور بنصف حجاب وربما دونه، فهو صديق صدوق وموثوق، وأعطاكِ من الوعود كثيرها بأنه سيحافظ عليها حفاظه على روحه وعرضه.

وتصدير الهموم "الآنيّة" والفضفضة عن الخصوصيات، وصعوبات الحياة، وانفعالاتكِ مع نفسكِ والمحيط باتت لازمة من لوازم كل الأدوات المتاحة في اليد، ومبعثًا من بواعث الراحة والاطمئنان، لأنها ترتد إليكِ بكلمات الثناء والإطراء والسلوى والتشجيع، أما اللجوء إلى قريبٍ يُعين أو أخٍ مخلص ومحب، طمعًا في رأي وأخذٍ لمشورة، فدونه حواجز لا تعرفين مأتاها.

مدخلات كثيرة تزاحمت لديكِ، واهتمامات جديدة بدأت تحوز رضاكِ، اندفاعات طارئة باتت تظهر على الجوارح، وتتفلّت من مكانها، ولا يزال محيطكِ "المتجمد" غير راضٍ عنها، وبين هذا وذاك مقارنات بدأت تفرض نفسها وتستحوذ على تفكيرك، تُجرينها بينكِ وبين ما تشاهدين وتسمعين وتقرئين، وكلها تريكِ من نفسكِ اختلافًا عن الآخرين، ودرجة هي بالضرورة أقل، يرافقها صراعات بدأت تُصنع ما بين جنبيكِ، بين أنماط حياة كلها تريد منكِ انتصارًا لها وتغليبًا لرايتها، مقابل انكسار الأخرى وسحقها، فحينًا تحاولين مجاراة ندهات التقليد لآخر تقليعات الشياكة والموضة، وإسقاطها على نفسكِ متجاهلة الواقع والمحيط الرافض لها، فتعودين غاضبة وحانقة على هذا "التخلف والرجعية وتقييد الحريات"، ومصادرة الحق في اختيار أسلوب "الحياة العصري".

وتارة تأنسين لصوت داخلي عذب كآلة ناي يتردد صداه في جنانكِ، يرجوكِ التريث والإبقاء على طهارة روحكِ عفيفة عن الخطأ، وبعيدة عن الدرن والسوء، يبكيك حينًا بدمعٍ يُرطِّب جفاف قلبكِ التائق لحياةٍ ملؤها سكينةٌ وأمان، وثقةٌ واطمئنان، وتعيشين معه أحيانًا من التجلي بروحانية لا تزال تسمو بكِ عن وحل الأرض وخُبْثها، فتتمنى نفسكِ البقاء في هذه الآفاق كحلمٍ جميل لا يقطعه استيقاظ، ولا تنهيه تنبيهة، لكنه ينتهي، وتعود سيرتك الأولى.

فيا أخيتي، أينما كنتِ، وحيثما أينعتْ أزهاركِ وأبهجت آثاركِ، بعض خطراتكِ ربما جاءت بها هذه السطور، وغيرها ربما لا يزال مخبوءًا بين خافقيكِ، أنتِ وحدكِ -بعد الله- أدرى بها وبمكنوناتها، أعلم أنكِ تدركين أخطار هذه الأدوات، غير أن النفس أحيانًا تغوي، فانتفعي منها ما بدت منافعها، وابتعدي عن مواطن الشبهات ومواطن السوء حتى لا يجركِ المحظور، فإنَّ من أهم إشكالات هذه الوسائل ومخاطرها الكارثية هي تلك الحواجز النفسية التي عملت على إزالتها، حتى أصبحت كل الأمور "ضمن المتاح وبكبسة زر"، فسهولة الوصول تغري دومًا بحب الاستكشاف، وما كل المغامرات تعود بالنفع دومًا أو تضيف فائدة، اللهم إلا من أنها تراكم حصيلة من التجارب قد تكون مُثقلة بالخيبات والأحزان.

فإلى كل من ستقرأ هذه السطور سلام وتحية، اللهم إني قد بلغت، اللهم فاحفظ وأعن على كل خير.