كانت عقارب الساعة تشير إلى الثالثة عصرا، شعروا بقليل من الأمان، تجمعت عائلة ديب في "حوش" البيت، أدارت الجدة كرسيها نحو القبلة ووضعت سجادة الصلاة على ساقيها وحولها باقي أفراد العائلة.
اقتحم صاروخ احتلالي المكان فهدم سور البيت الواقع بالقرب من مدرسة الفاخورة في جباليا شمال قطاع غزة، لحقه بثوانٍ قليلة الصاروخ الثاني الذي أجهز على جميع من في المكان وكانوا 11 فردا، غطى الغبار والدخان أجواء المكان.
كان حينها معين ديب على مسافة أمتار قليلة من المكان، أسرع نحو مصدر الدخان متخيلا أن القصف في بيت جيران كما حدث قبل أيام قليلة، صدم من هول المنظر رمى الأكياس التي كان يحملها، وفي هذه الأثناء سمع صوت جارته التي لم تلمحه "كل عيلة ديب استشهدت".
السادس من يناير/كانون الثاني لعام 2009 إبان العدوان الأول على قطاع غزة، تاريخ لا يمكن أن يمحى من ذاكرة ديب الذي فقد خمسة أبناء هم "ألاء ونور وأسيل ومصطفى ومحمد" وزوجته الحامل بشهرها الخامس، إضافة إلى أخيه الكبير سمير وأبنائه محمد، وعصام، وفاطمة إضافة إلى والدته.
فكيف نجا ديب وابنه الأكبر بكر من المجزرة، يقول لصحيفة "فلسطين": "بعد ليلة متعبة قررت النوم ظهرا ذلك اليوم، ولكن والدتي نصحتني بمغادرة البيت لأن أخي سيصلح بيته الذي تضرر من قصف سابق لبيت جيرانهم، أما بكر فقد طلبت منه والدته إيصال شيء ما لأحد الأقارب وأوصته بنطق الشهادتين طوال الوقت".
يحيا ديب حاليا سنته الـ 52 ولكن صوته الحزين يوحي بعمر أكبر، يتابع: "ركض بكر الذي وصل البيت قبلي وأخبرني بأن كل من كان في البيت استشهدوا لحظتها قلت له ما دمت بخير نحمد الله على ذلك".
وصل الإسعاف وحمل جثامين الشهداء، وركب معين وابنه في سيارة إسعاف أخرى، ووضع في غرفة في مستشفى الشفاء وهو لا يدري ما حل بعائلته، لم يستطع المكوث بين جدران الغرفة أخذ يتمشى في حديقة المستشفى.
وبينما هو يتمشى كان يأتي أحدهم ليخبره بموت فرد تلو الآخر من عائلته، خوفا عليه من الصدمة، إلا ابنة واحدة كانت إصابتها خطرة عاشت أسبوعين ثم استشهدت.
يستعيد معين ذكريات اللحظات الأخيرة لعائلته، ويسرد تفاصيلها: "حينما أبلغت باستشهاد أخي الكبير قصم ظهري فهو كان سندا لي بعد الله، وقد ترك لي حملا ثقيلا من بعده برعاية زوجته وأبنائه الأحياء".
اللحظة الأولى التي شاهد بها والده وأخاه وأبناءه لحظة وداعهم "بكيت بحرقة وطال احتضاني لهم، لا أريد أن يودعوني، طلبت من الجميع أن يدفنوني معهم، كنت أعيش لأجلهم وهم ذهبوا وتركوني بحسرتي".
لم يستطع عقل معين تحمل صدمة الفقد، فقد تأزمت حالته النفسية لمدة ثلاث سنوات فقد على اثرها عمله في احدى المؤسسات الخاصة، ولم يتحمل العودة إلى بيته وحارته، فقد غادر المكان كليا ولكون عائلة جديدة، لأن كل ركن في البيت كان يذكره بضحكات وحركات ولعب وأحلام أبنائه الذين كان يكد من أجل أن يحققها لهم.
قبل استشهاد أبنائه وزوجته بستة أشهر، جدد أثاث بيته بمساحته 220 مترا على آخر "طراز"، ورغم ذلك بقيت في قلب زوجته أم بكر غصة، يقول: " كانت تخبرني أن قلبها مقبوض، كانت تدعو أنها اذا استشهدت أن تستشهد مع أبنائها".
لا ينقطع معين عن زيارة قبور 11 شهيدا، يباعد بين الزيارات لأن قلبه لا يتحمل لوعة فراقهم، والذي دائما يردد "مفترض أن يكونوا جميعهم في حضني، لا في حضن القبور".
تحشرج صوته بالبكاء وهو يقول: "مرت 12 سنة على رحيلهم وحتى لو مرت 120 سنة لن أنساهم، لا طعم للحياة دونهم".
رزق معين بولدين وبنت من زوجته الجديدة وسماهم بأسماء من استشهدوا، إضافة إلى ثلاث حفيدات من ابنه الناجي الوحيد بكر، واليوم يعلن أنه يخاف أن يعيش مرارة الفقد مرة ثانية، فهو هاجس لا ينفك عنه".
ما يزال معين يحتفظ بصور أبنائه الذين استشهدوا على هاتفه المحمول، ودائما يقلب بين الصور ليتذكرهم ويترحم عليهم، ويعرف إخوتهم الذين لم يعرفوهم إلا من خلال الصور وحكايات أبيهم عنهم.
ذكريات قاسية آثارها النفسية ما تزال باقية في نفس معين الذي لا يتمنى أن يعيش أي شخص ما عاشه، ولا يفجع أي أحد في أحبابه، ولكن إيمانه بقضاء الله وقدره هو ما يصبر قلبه على فراقهم.