لا همَّ يتملك الفلسطيني رشاد عبد الله (38 عامًا) سوى توفير لقمة عيش وفيرة لعائلته كل يوم، ولكن عمله في مهنة الصيد البحري يحول أحيانًا دون تحقيق تلك الغاية على بساطتها.
وبعد رحلة صيد استمرت منذ ساعات الليل الأولى حتى شروق الشمس على متن قارب صغير الحجم وصل عبد الله برفقة نجله الأكبر "محمد" إلى مرفأ الصيادين حيث ترسو القوارب، قرب الأرضية الإسمنتية المحيطة بالميناء، غربي مدينة غزة.
سريعًا جدًّا أنهى عبد الله مهمة تفقد شباكه والتقاط ما علق بها، ليس لخفة يده ومهارته الممتدة على طول 25 عامًا فحسب، بل لأنه عاد من رحلته خالي الوِفاض، مع أنه قطع مسافة تسعة أميال بحرية، بعدما سمح الاحتلال الإسرائيلي بذلك أخيرًا.
"لم أتخيل إطلاقًا أن يصل حالنا إلى هذه المرحلة، تصدق أني تارك البيت من حوالي تسع ساعات وهيني روحت (الآن عدت) بكم كيلو سردين ومشكل" يقول عبد الله معلقًا على ظروف عمله، ثم يتمتم بآيات الحمد.
ويضيف الصياد الثلاثيني لمراسل "فلسطين": "ورثت مهنة الصيد عن أقاربي منذ الطفولة، وفي مرحلة الشباب بدأت العمل بمفردي (...) كان الكسب وفيرًا ورزق البحر متنوعًا من السمك الكبير والصغير، أما اليوم فلا شيء بانتظارك إلا خيبات الأمل ورصاص جنود البحرية الإسرائيلية".
"وهل استفدت من مسافة الأميال التسعة؟"، يجيب عبد الله عن سؤالي السابق بعد تنهيدة طويلة: "لم يتغير أي شيء، فحال الأميال التسعة كالأميال الستة؛ فالمنطقتان خاليتان من الأسماك كونهما رمليتين، إضافة إلى أن الاحتلال حصر الزيادة ما بين الوادي والحدود المصرية، وتلك منطقة لا تكفي للصيادين".
وفي مطلع الشهر الجاري أيار (مايو) سمح الاحتلال الإسرائيلي لصيادي غزة بقطع تسعة أميال بحرية بدءًا من منطقة وادي غزة وسط القطاع حتى مدينة رفح جنوبًا، بعد أن كانت مسافة الصيد المسموح بقطعها ستة أميال فقط.
مزاج الضابط
الصياد محمد نجيب بكر لم يمثل له القرار الأخير أي جديد يذكر، وهو يرى أن الفارق الخفي يتعلق بكمية السولار أو البنزين التي تحرقها محركات قوارب الصيادين، في أثناء عملهم على مسافات بعيدة.
ويقول بكر متسائلًا: "أين السمك؟!، نحن الآن في موسم السردين الذي بدأ من الشهر الماضي (أبريل) ويستمر حتى نهاية شهر 6 (يونيو)، ولكن اليوم الشغل على الفاضي (دون جدوى) شو (ماذا) يعني تطلع من بعد العشاء حتى الفجر وترجع بـ4 ولا 6 كيلو؟!".
ويصف بكر خلال حديثه لـ"فلسطين" أوضاع الصيادين بـ"المأسوية"، مضيفًا: "يعلم الاحتلال أن منطقة الأميال التسعة خالية من الأسماك، لذلك يسمح لنا بالعمل فيها، أما الرزق والصيد فيوجدان ما بعد الميل الثاني عشر الذي يحوي المناطق الصخرية التي تساعد على فقس وعيش الأسماك".
وعن طبيعة اعتداءات الاحتلال يزيد رائد البحر منذ 55 عامًا: "الانتهاكات لم تختلف ولن تختلف قبل الزيادة أو بعدها، فالجندي قد يطلق النار على الصياد أو يصادر مركبته ويمزق شباكه، هكذا دون أسباب تذكر، سواء أكنت تعمل في المنطقة المسموح بها أم لا، فالمزاجات تحكمه".
ويواجه صيادو غزة مضايقات إسرائيلية مختلفة، كإطلاق النار عليهم من الأسلحة الرشاشة مباشرة وتمزيق شباك الصيد، واعتقالهم وتدمير معدات العمل، الأمر الذي يؤكد عدم التزام الاحتلال باتفاق التهدئة الأخير 2014م، الذي نص على حرية عمل الصيادين.
انخفضت ولكن
وإن أبدى بعض تجار الأسماك ارتياحهم الحذر إلى انخفاض الأسعار بعد توسعة رقعة الصيد؛ فإن الخشية من تأثير الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية للمواطنين على حركة البيع تلاحق أولئك التجار.
العشريني عبد الكريم مقاط ذكر أن التوسعة المحدودة لمساحة الصيد حققت زيادة طفيفة في معدل صيد بعض الأصناف التي يقبل عليها غالبًا أصحاب الدخل المرتفع، في حين انخفضت أسعار أصناف أخرى إلى مستوى مقبول نسبيًّا، فالكيلو الجرام الواحد من السردين يباع بنحو 30 شيكلًا (الدولار يعادل 3.60 شيكل).
وبين مقاط خلال حديثه لصحيفة "فلسطين" أن واقع الصيادين في القطاع المحاصر منذ عشر سنوات هو الأسوأ بين نظرائهم على مستوى أصحاب المهن والدخل المحدود، وذلك على وقع الانتهاكات الإسرائيلية التي تأخذ منحى متصاعدًا وصورًا مختلفة.
وفي سياق الحديث عن عيش الصيادين بين مطرقة رصاص الاحتلال ونار الحصار أكد الصياد محمود بكر أنه يكاد يكون من المستحيلات السبع أن تجد صيادًا غزيًّا واحدًا لم يكتو بظلم الاحتلال، إما بالقتل المباشر أو الاعتقال أو مصادرة المركب وتدميره، والكثير من أوجه المعاناة.
وأشار بكر إلى أن الاحتلال يحارب الصيادين منذ عقود إما محاربة مباشرة في عرض البحر، أو غير مباشرة بمنع إدخال قطع الغيار ومستلزمات صيانة القوارب، أو المحركات الحديثة، وأيضًا ينغص على الصيادين حياتهم أو يدفعهم إلى ترك البحر.
وتقلصت أعداد الصيادين الغزيين تدريجًا منذ عام 2000م من نحو عشرة آلاف صياد إلى قرابة أربعة آلاف، يعيلون أكثر من 50 ألف نسمة، يعملون في ست مناطق صيد، وهي شواطئ مدينة غزة والنصيرات ودير البلح وخان يونس ورفح وشمال القطاع.
ونصت اتفاقية أوسلو التي وقعت بين السلطة الفلسطينية والاحتلال عام 1993م على السماح للصيادين بالعمل في مسافة 20 ميلًا بحريًّا، التي فيها الصيد وفير.