وإذا كانت النفوس كبارًا ... تعبت في مرادها الأجسام (المتنبي)
الأفكار هي وقود النفوس الأبية التواقة والهمم العالية والإرادة القوية، بها يتخطى الإنسان الصعاب ويركب الخطر، ومن أجلها تهون التضحية ويحلو الفداء، وبها ترتقي الأمم وتبنى الدول، ولذلك فإن الأفكار لا تموت بموت أصحابها، ولكنها تستمر ما بقيت هناك نفوس تؤمن بها وتحملها وتتحمل في سبيلها الآلام حتى تنتصر وتسود، أو تضمحل وتتلاشي إذا فرط بها رجالها، فالأفكار العظيمة تحتاج إلى رجال عظماء يردفون قولهم بالعمل، تجدهم في الميدان رجال الميدان اذا ما أزفت لحظة الخطر، ويتنزهون عن مزاحمة الصغار ثمار الغنيمة، لا يبهر عيونهم بهرج السلطة ولا تفت في عضدهم قسوة الطغاة، فلا قيمة للأفكار إن كانت كلمات ميتة لا حياة فيها، قول بغير فعل.. تنظير بلا عمل، ورحم الله القائل (تبقى كلماتنا عرائس من شمع فإذا ما متنا في سبيلها دبت فيها الحياة) وإن كان لا قيمة للأفكار بلا فعل فإنها تمسخ تمامًا إذا كان فعل حاملوها يتناقض مع المثل والقيم والمبادئ التي تنادي بها، ولا يكون ذلك إلا عندما تهزم النفوس أمام مغريات السلطة أو بطش الطغاة فتسقط الفكرة، وكثيرة هي أمثلة سقوط النفوس التي مرت بتاريخ البشر وكان أسوأ أمثالها ما ذكره القرآن الكريم في سورة الأعراف في حق من يناقض بأعماله الفكر الذي يحمل في قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، ولَوْ شِئنَا لرَفَعْناه بِها ولكنّه أخْلَدَ إلى الأرضِ واتّبع هَوَاهُ فَمَثَلُه كمَثَلِ الكَلب إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أو تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) وكأني بهذه الآية الكريمة تخاطب الذين يصطفون إلى جانب العدو ليوقعوا معه اتفاق تطبيع في الوقت الذي كانوا حتى وقت قريب يُنَظرون لمحاربه هذا العدو ويعتبرون التطبيع معه جريمة حضارية، بل لم يعد مفهومًا موقفهم إذ أنهم بعدما ارتكبوا الخطيئة ما زالوا يتحدثون عن الطهارة فيمارسون الباطل ويتحدثون عن الحق، كان بمقدور المطبعين المغربيين أن يصمتوا أو يصارحوا الناس بأنهم قبلوا التطبيع بعدما ضعفت نفوسهم أمام مغريات أو إكراه السلطة، ولكن لا يقبل أن يبرروا خطيئتهم بالإصرار على فكر يناقض موقفهم تمامًا، فبأي حديث بعد هذا يؤمن الناس؟ لقد سقطت فكرتهم عندما هزمت نفوسهم، وكان أحرى بهم أن يسيروا سيرة الرجال العظماء الذين آمنوا بأفكارهم وتشبثوا بها حتى قضوا في سبيلها، وإلا فليدعوها لمن هو أجدر بها وأقدر منهم على حملها، وليقنعوا بمغنم للسلطة الذي لا يعني عنهم في تاريخ الأمم شيء ولا يذكر في سير الرجال إلا بالخزي والعار، وقد قيل قديما تموت الحرة ولا تأكل بثدييها، فأي عذر لكم أمام من ائتمنوكم على أصواتهم التي ما كنتم لتأخذوها لولا ما ناديتم به من أفكار تدعو بنقيض ما أقدمتم عليه فأين تذهبون؟
أما سمعتم كما سمعنا وما زلنا نسمع بوزراء يستقيل أحدهم بسبب حادث طرق أو انهيار جسر أو وفاة مريض في مشفى أو شكوى طالب في مدرسة وذلك لأنهم آمنوا بفكرة أن مواقعهم في السلطة ما هي إلا خدمة يقدمونها لمن منحوهم أصواتهم بناء على ما عرضوه من برامج، فاعتبروها أمانة ثقل عليهم حملها حينما وقع في وزارة أحدهم ما يخالف ما وعد به ناخبيه، فلم تعد نفسه تطيق أن يبقى في الخدمة خوفا من خيانته للأمانة، وجل هؤلاء الذين نسمع عنهم إنما يحملون أفكارًا مبنية على أسس غير عقائدية، ورغم ذلك احترموا الأفكار التي يحملون، وغادروا مواقعهم حينما تعارضت أفكارهم مع أعمالهم، ولكن بأي وجه يتحدث الذي يحمل فكر العقيدة ويناقض قوله فعله في نفس اللحظة وهذا لعمري في القياس عجيب، ففي نفس الوقت الذي يدعو فيه حزب العدالة والتنمية لمقاطعة العدو الصهيوني يوقع زعيمه الذي يرأس الحكومة اتفاق التطبيع مع العدو ويسانده في ذلك زعيم الحزب ورئيس الحكومة السابق، فأي فكر مشوه هذا الذي يحملون؟ وكيف لم تخجلهم استقالات وزراء تركوا مواقعهم لأسباب هي أدني بكثير من الخطيئة التي أقدم عليها رئيس حكومة المغرب (العثماني) الذي حاول تبرير خطئه بعذر أقبح بكثير من ذنبه عندما قبل المقايضة البائسة بين أرض الصحراء الغربية وقضية فلسطين، فهل نحن أمام نموذج فريد للتشبث بالسلطة على حساب المبادئ والقيم أم هو الخوف من قول كلمة الحق في وجه سلطان جائر أم أنها لوثة فكرية تعبر عن حالة مرضية؟