كانت "ضربة معلم" ما قام به القصر الملكي، حمل رئيس الوزراء المغربي، سعد الدين العثماني، على التوقيع شخصياً على اتفاق التطبيع مع إسرائيل بواسطة أميركية منحازة للدولة العبرية. أوجه هذا متعدّدة. أولها أن العثماني، وقبل أن يكون وزيراً ثمَّ رئيساً للوزراء، شخصية قيادية حركية إسلامية مغربية معروفة، وهو مفكر عميق وصاحب جهود كبيرة في العقود الماضية في خدمة القضية الفلسطينية في المغرب. ثانيها، أن العثماني ينتمي لحزب بخلفية إسلامية، هو "العدالة والتنمية"، وصل إلى الحكم محمولاً على أجنحة ثورات "الربيع العربي"، بمعنى أنه جسّد يوماً آمال الشعوب العربية وطموحاتها في تغيير ديمقراطي حقيقي، ينهي حقباً من الفساد والقمع. وثالثها، أن البروتوكول لم يكن يتطلّب أن يكون شخص رئيس الوزراء هو الطرف الموقّع نيابة عن المغرب مقابل جاريد كوشنر، مستشار الرئيس الأميركي، ومائير بن شبات، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي. لا هذا ولا ذاك نظيران بروتوكولياً لرئيس وزراء منتخب. أضف إلى ذلك أن ملف السياسة الخارجية ليس في يد الحكومة أصلاً، وكان العثماني نفسه أقصي من موقع وزير الخارجية عام 2013 بضغط مباشر من القصر.
إذن، ما جرى كان مقصوداً وفيه تحقيق أكثر من هدف. من ناحية، خسر العثماني كثيراً من رمزيته وتاريخه ونضاله، وكان لافتاً حجم التهم التي وجهت إليه بالخيانة، حتى من إسلاميين، مغاربة وغير مغاربة. ومن ناحية ثانية، خسر "العدالة والتنمية" كثيراً من رصيده الشعبي والنضالي، وهو الذي تمّت برمجته، إلى حد كبير، في العقد الأخير، على مقاسات مؤسسة المخزن المغربية التي وصلت إلى حد التدخل في تركيبة قيادته بإقصاء رئيسه ورئيس الوزراء السابق، عبد الإله بن كيران، لصالح العثماني. وعلى الرغم من محاولات الحزب الكثيرة، عبر قيادته الحكومة، محاربة الفساد ورفع سوية الاقتصاد وتعزيز الحريات، إلا أنها جهود فشلت أمام كوابح الدولة العميقة. والنتيجة أن الناس فقدت الثقة بالرموز، وبالثورات الشعبية، وبالتيارات التي تنادي بالديمقراطية والحرية والإصلاح، بغض النظر عن لونها الإيديولوجي. هذا ما رامته مؤسّسة المخزن في المغرب. وللأسف، هذا ما حققته بتواطؤ مريب من العثماني شخصياً ومن قيادة "العدالة والتنمية".
قد يقول قائل إن خيارات الحزب في الحكم ضيقة في بلد كالمغرب، حيث القصر هو الحاكم وهو المرجعية في كل صغيرة وكبيرة، وهذا صحيح. لكن المؤشرات التي صدرت عن العثماني وعن "العدالة والتنمية" تعطي انطباعاً آخر، وكأنهما يملكان الأمر، وبالتالي يتحمّلان كامل المسؤولية. لا أشك لحظة بأن العثماني وقيادات في "العدالة والتنمية" استكرهوا على مباركة التطبيع مع إسرائيل مقابل اعتراف إدارة دونالد ترامب بمغربية الصحراء. أقول ذلك بحكم علاقات شخصية تربطني بكثيرين منهم. ولكن عندما يبادر العثماني وقيادات في حزبه إلى التغنّي بـ"إنجاز" التطبيع مع إسرائيل، كما جاء في الإعلان الثلاثي المشترك، ومهاجمة كل من انتقد هذا العمل، فإن أيّاً كان لا يملك الكثير للدفاع عن موقفهم، والذود عن تاريخهم. وكيف يمكن أن ندافع عمّا كان العثماني نفسه يجرّمه قبل أشهر قليلة فقط؟
"موقف المغرب، ملكاً وحكومة وشعباً، هو الدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني والمسجد الأقصى المبارك، ورفض أي عملية تهويد أو التفاف على حقوق الفلسطينيين والمقدسيين، وعروبة وإسلامية المسجد الأقصى والقدس الشريف.. هذه خطوط حمراء بالنسبة للمغرب، ملكاً وحكومة وشعباً، وهذا يستتبع رفض كل التنازلات التي تتم في هذا المجال، ونرفض أيضا كل عملية تطبيع مع الكيان الصهيوني". هذا تصريح للعثماني أمام نواب حزبه في شهر أغسطس/ آب الماضي. ما الذي تغير بين ذلك الحين واحتفائه، يوم الأربعاء الماضي، عبر حسابه على "تويتر" بالإعلان الثلاثي؟ ببساطة، لقد قرّر الملك محمد السادس أمراً، وليس في وسع من قبل بخطط البرمجة ضمن مقاييس المخزن إلا أن يتأقلم مع المتغير الجديد.
العثماني وحزب العدالة والتنمية ليسا "خائنيْن"، كما حكم بذلك إسلاميون ونشطاء كثيرون، مغاربة وغيرهم، ولكنهما يدفعان ثمن مبالغتهما في تسفيه من انتقدوا فعلهما هذا والانتقاص منهم، ورفضهما أي نصيحة، وإسرافهما في محاولة تجميل قبيح العمل. قبل أشهر فقط، كان العثماني وحزبه يدينان من يطبّع مع إسرائيل. واليوم، يعدّان ذلك من ضرورات الحكم، كما أفتى بذلك بن كيران! إذا لم تكن تلك هي الذرائعية والمعايير المزدوجة، فماذا تكون؟
في مقال نشره عام 1996 في مجلة "الفرقان"، بعنوان: "التطبيع إبادة حضارية"، خلص سعد الدين العثماني إلى أن "التطبيع يأتي كأفضل أداة تفتق عنها المكر الصهيوني، فهو شرط يضعه في المقدمة لكل اتفاقية سلام، فلا سلام عندهم بدون تطبيع سياسي وثقافي واقتصادي، وإلا فالحرب، بذلك يصرح زعماء الكيان الصهيوني باستمرار، وعلى ذلك يؤكدون في كل وقت وحين". هذا قول العثماني نفسه، وهذه إدانته، ومن ثمَّ فلا يلومن من نهل من عِلمه يوماً ويتهمه اليوم بأنه ضحية "المكر الصهيوني"، وبأنه أثبت أنه مجرّد ديكور في مؤسسة حكم لا تقيم له وزناً، ورمت به تحت عجلات حافلةٍ لتدوس ما تبقى له من تاريخ ورمزية. وفي المعية، وهي الهدف الأساسي، إيمان الشعوب بقدرتها على التغيير عبر نخبها.