كانت عقارب الساعة تشير إلى السادسة صباحًا حين أطلَّت سهير من نافذة بيتها لتلقي نظرة على زوجها رجب بركة، الذي كان يتفقد طيور الكناري، كما اعتاد دومًا ذلك.
كانت ابتسامتها تزداد اتساعًا مع كل شقشقة تصدرها الطيور، وتنثر بأصواتها الجميلة الحب والأمان بينهما.
تستمر الأيام "الحلوة" _كما وصفتها_ قرابة 20 عامًا، قضاها الزوجان معًا في بيت صغير ببلدة بني سهيلة، شرقي محافظة خان يونس.
لكن هذه الأجواء لم تتكرر في حياة سهير (48 عامًا) منذ اعتقال زوجها على يد قوة إسرائيلية توغلت في منطقة سكنها، جنوبي قطاع غزة، في 17 شباط (فبراير) من عام 2008م.
"لا يفصل بين بيتي والسلك الحدودي مسافة كبيرة؛ فكانت البلدة عرضة للتوغلات دائمًا" قالت سهير واصفة حال المنطقة التي تسكن فيها.
وأضافت: "اعتقل زوجي برفقة 9 آخرين، أمضوا جميعهم محكوميتاهم إلا زوجي، فهو ما زال أسيرًا".
ويقضي رجب (49 عامًا) حكمًا بالسجن مدة 10 سنوات بتهمة مقاومة الاحتلال، نقل بين عدة سجون إسرائيلية، إلى أن استقر في سجن "نفحة" الصحراوي.
وبذلك أصبحت زوجة الأسير تعيش وحدها في بيتها، تحاول لملمة ذكرياتها الجميلة التي قضتها وزوجها قبل اعتقاله والزج به خلف القضبان، كما آلاف الأسرى الذين يخوضون إضرابًا مفتوحًا عن الطعام، منذ 17 نيسان (أبريل) الماضي.
تابعت: "لم يتبقَ لزوجي سوى أشهر سيقضيها خلف القضبان، لكنه أصرَّ على الإضراب عن الطعام دعمًا للأسرى، فهو يشارك في كل الإضرابات دون تردد".
وهي تبدو فخورة بمشاركة رجب في إضراب "الكرامة" الذي خاضه الأسرى لتحقيق مطالب إنسانية، في ظل إجراءات تعسفية تمارس بحقهم.
لكنها في الوقت نفسه تخشى على حياته من أي مكروه قد يصيبه بسبب استمرار الإضراب، وإعلان إدارة سجون الاحتلال نيتها تغذية الأسرى المضربين قسرًا.
سهير مع تقدمها في السن، وما مرت به من معاناة كانت تأمل أن تنجب طفلًا يملأ عليها حياتها، وما زالت تحيا على هذا الأمل.
"بعد اعتقال زوجي حاولنا تهريب نطفة من السجون، كما فعل أسرى آخرون" قالت سهير بصوتٍ خافت.
ولم تفلح هذه المحاولات أكثر من مرة، وشاءت الأقدار أن تظل وحيدةً تقاسي أيامًا صعبة شعرت خلالها أن عجلة الحياة توقفت.
كانت سهير قبل بضعة أعوام تستيقظ على أصوات شقشقة العصافير، والآن بات طلوع شمس الصباح موعدًا لانطلاقها إلى ساحة السرايا وسط مدينة غزة، للاعتصام تضامنًا مع زوجها والأسرى المضربين عن الطعام.
ولأجل ذلك تأتي كل يوم من خان يونس إلى مدينة غزة، دعمًا لزوجها الذي انتظرته طويلًا، وحضرت له مفاجأة طالما أحبها كثيرًا قبل اعتقاله هناك خلف القضبان، حيث تقف الساعة عن الدوران.
تحمل صورة زوجها وتقف إلى جانب ذوي الأسرى، ترفع شارة النصر، ويتجاوز صوتها كل الحدود وهي تهتف عاليًا دعمًا للمضربين.
أوشكت شمس المغيب أن تغرب، ومع ذلك انتهى يوم اعتصام وإضراب قضته سهير في ساحة السرايا تضامنًا مع زوجها، قبل أن تعود إلى منزلها لإكمال تجهيزات استقباله، فلم يبق سوى بضعة أشهر ستشتري خلالها طيور كناري جديدة طالما عشق رجب شقشقتها الصباحية.