تتسابق المخاوفُ في قلب حسام نبهان، وكأن فيروس كورونا اجتاز قلبه قبل أن يلجَ إلى رئتي شقيقه الطبيب الشاب محمد (24 عامًا) الذي يرقد على أسرَّة العناية المكثفة بمستشفى غزة الأوروبي منذ (16) يومًا، قبل أن ترحل به تلك المخاوف للاتصال بشقيقه وسماع صوته: "كيف حالك محمد؟ إن شاء الله أحسن اليوم". -"الحمد لله بخير". -و"الأكسجين؟". "وضعه كويس". كلمات أطفأت نيرانَ مخاوفه المستعرة.
الساعة الثانية مساء الأربعاء التاسع ديسمبر/ كانون الأول الجاري، قفزت مخاوف جديدة من قلب حسام في نفس اليوم دون أن يدري، اتصل مرة أخرى بقريب مرافق لشقيقه، اطمأن على نسبة الأكسجين التي "كانت مطمئنة حين الاتصال"، وزاد في طمأنته أن "محمدًا يأكل ويشرب"، إلا أن اتصالًا آخر من المرافق بعد ذلك، غيَّر مجرى الأمور بعدما أخبره بتدهور حالة محمد، وأن الأطباء وضعوه على أعلى قدرة لجهاز التنفس، وفي الخلفية أصوات أجهزة وحالة طوارئ، وتدخلات طبية عاجلة، لكن كلها لم تمنع فيروس كورونا من النيل من الطبيب الشاب الذي لم يشكُ أي أمراض سابقة.
الخطيبة.. والزيارة الأخيرة
في التفاصيل يعود شقيقه حسام في حديث مع صحيفة "فلسطين" إلى القصة منذ بدايتها، فيقول: "ذهب أخي محمد إلى زيارة خطيبته، وهناك عانى الاختناق بعدما كان يعاني قبلها أعراض "الكحة"، وارتفاع درجة الحرارة، فتوجهنا به إلى المستشفى الإندونيسي شمال قطاع غزة الذي تطوع به سابقًا، وفي الآونة الأخيرة تطوع بمستشفى النصر للأطفال".
في الإندونيسي أجرى الأطباء، وفق شقيقه، صورة أشعة وتبين أن محمدًا يعاني التهابًا حادًّا، ونقل في إثرها لمستشفى غزة الأوروبي، مضيفًا: "هناك وضع على جهاز أكسجين وظل ثلاثة أيام، لكن مع تطور الحالة دخل العناية، يومها سألت أحد الأطباء -وكنت خائفًا- عن وضعه، فأخبرني أنه بخير ولا يوجد قلق، وسيتم الاعتناء به بصورة مكثفة لأنه طبيب"، ولم يدرِ أن كلام الطبيب هو مداوة لمخاوفه.
على طرف سماعة الهاتف الأخرى، يتوقف عند آخر لحظات شقيقه على أسرَّة مستشفى غزة الأوروبي: "أجروا له صورة أشعة، وتبين أن هناك تفاقمًا وزيادة في انتشار الفيروس، فضلًا عن ارتفاع وانخفاض في نسبة الأكسجين بين الفينة والأخرى".
"محمد لن يحضر الحفل!"
كان محمد على أبواب الدخول في قفص الحياة الزوجية الصيف القادم، بعد أن ينال شهادة تخرجه المنتظرة في يونيو/ حزيران، أحلامٌ كبيرة تنمو وتزهر بداخل قلب الطبيب الشاب، وهو الذي اعتلى منابر المساجد ليحذر الناس من خطورة فيروس كورونا، وهذه المرة تمثل قصته نموذجًا أمام كل مقصر ومستهترٍ، يخبره فيها أن الفيروس لا يطرق أبواب الشباب فقط بل يتسبب بفقدان أرواحهم وهم أصحاء بلا أمراض، كحال هذا الطبيب.
"وهو عند خطيبته، طلب منها أن تعد له الحلوى، واعتقد أن الكحة هي إنفلونزا عادية، لكن بعد شعوره بالاختناق نقلناه إلى المشفى (...) أخي لديه طموح شديد، والتحق بكلية الطب ليخدم الآخرين وهو لا يألو جهدًا في خدمة الناس وقدم عدة خطب للجمعة في مسجد "الحسن" في مخيم جباليا وكان يريد الاستمرار في الطب حتى يتخصص في الجراحة".. كلمات يبكي فيها حسام رحيل شقيقه.
ما زالت صدمة الرحيل جاثمة على قلبه: "الحادثة قضاء الله وقدره، لكن لم نتوقعها، وإننا ننصح كل شاب لأني فقدت أعز شخص في حياتي، كان أعز علي من أولادي، هو رفيق دربي في كل شيء يتنقل معي دائمًا، بسبب الفيروس، ولو فقدت ولدًا من أولادي أهون علي من فقدان أخي، وهذه قصة لكي تتيقن الناس أن الأمر خطر وليس كما تتصور وتعتقد".
"ليسوا في مأمن"
الطبيب جهاد الجعيدي رئيس قسم العناية المركزة بمستشفى غزة الأوروبي، يقول لصحيفة "فلسطين" حول أسباب وفاة الشاب الطبيب محمد نبهان: "تم استدعاؤنا لمعاينة مريض في الأقسام العادية، وعند المعاينة كان رحمة الله عليه يعاني نقصًا حادًّا في الأكسجين والتهابات رئوية شديدة، وصنفت حالته بالحرجة وعليه تم إدخاله قسم العناية المركزة، ووضع المريض على جهاز تنفس صناعي ووصفت له العلاجات المناسبة لحالته الصحية".
لا توجد علاقة لوفاته بإبرة "الديكلوفين والديكورت"، وفق تأكيد الجعيدي، بعكس ما انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، مضيفًا: "في بداية الجائحة كانت هناك تحذيرات من استخدام مضادات الالتهاب غير الستيروئيدية (الديكلوفين وعائلته) لمرضى كوفيد 19، وكان التحذير مبنيًّا على آلية عمل هذه الأدوية داخل الجسم واحتمالية ارتفاع الوسائط كالانترلوكين والسيتوكين اللذين من المفترض أن يكونا سببًا في الوفاة لهؤلاء المرضى".
ويتابع: "استمرت الدراسات في البحث عن وجود علاقة بين هذه العائلة من الأدوية وبين زيادة معدلات الوفاة، حيث إن منظمة الغذاء والدواء الأمريكية أفادت بأنه لم يثبت ضرره أو مأمونيته على مرضى كوفيد 19، كما أن منظمة الصحة العالمية قالت إن استخدامها لا يزيد من المخاطر".
يضيف الجعيدي: "حذرنا مرارًا وتكرارًا عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي من خطر فيروس كورونا المستجد، وأكدنا أنه لا أحد مستثنى من الإصابة وتبعاتها الخطرة سواء كبار السن أو الشباب، مريض أو معافى، ولكن للأسف الاعتقاد الخاطئ لدى الناس بأن الشباب والأصحاء في مأمن من مخاطر الإصابة أدى إلى التهاون وعدم اتباع سبل الوقاية".
"رسالتنا للجميع سواء كانوا شبابًا كبارًا في السن أو حتى أطفالًا، التزموا ارتداء الكمامات واستخدام المعقمات والحرص على التباعد الاجتماعي، لا داعي للتجمع في الأفراح والأتراح، حياتكم غالية بل وحياة من حولكم أيضًا غالية، لا تكُن سببًا في نقل العدوى لآخر قد يودي فيروس كورونا بحياته، كلنا رجاء أن تلتزموا سبل الوقاية والحرص على التباعد الاجتماعي".
لن يحضر محمد حفل تخرجه ولن يصعد لمنصة التكريم لتسلم شهادة الطب، ستفقده أروقة المستشفيات التي تطوع بها، قتل الفيروس حلمه قبل أن يكبر، سيبقى طيفه وذكرياته تتسابق في قلوب أهله وأحبته، وخطيبته تلك الفتاة التي شيعت أحزانها قبل أن تدق مراسم وطبول الفرح بداخلها.