منذ اتفاقية كامب ديفيد التي وقعت عام 1978م وهناك حديث يدور عن التطبيع، ورغم مرور كل هذا الوقت بقيت الدعوة الي التطبيع دعوة منبوذة وغريبة ومستهجنة ومحاربة، وكانت فكرة التطبيع طوال الفترة الماضية تتراوح بين الضعف والقوة حسب الحالة السياسية التي يمر بها الشرق الأوسط، فتارة تضعف حتى يظنها المرء انها ماتت، ثم ما تلبث أن تعود من جديد فيبدأ الجدل حولها يستعر من جديد.
عوامل قوة الفكرة أو ضعفها كانت تتأثر دائما بحالة الشارع العربي والاحداث التي تدور في منطقة الشرق الأوسط ، فمثلا اندثرت فكرة التطبيع تماما بعدما شنت "إسرائيل" حربها على لبنان عام 1982م وما ارتكبته من جرائم كان أبرزها مذبحتي صبرا وشاتيلا، وبعد أن انتهت الحرب وظنت "إسرائيل" أن الأجواء مهيأة لها لاستئناف مسيرة السلام "وفقا لمقاييسها" مع العرب اشتعلت الانتفاضة الأولى عام 1987م وتضامن معها الشارع العربي بقوة بل وكل الاحرار في العالم حيث أصبحت نموذجا ملهما للشعوب المستضعفة التي ترنو الى الحرية، وجعلت مشاهد الانتفاضة وما واكبها من مشاهد القمع الصهيوني الوحشي لها الحديث عن التطبيع كمن يبيع الخمر عند بئر زمزم، ثم كانت اتفاقية أوسلو عام 1993م التي نبشت فكرة التطبيع من الموت وعادت أصوات المطبعين لتعلو وتجد طريقها في وسائل الاعلام، ثم فتحت سفارات ومكاتب تمثيل للعدو الصهيوني في عدد من البلدان العربية، ثم ما لبثت أن خبت هذه الموجة من التطبيع باندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000م، ورغم المحاولات بالتي بذلت لبعث الفكرة من جديد الا أنها لم تلق اهتماما او رواجا وبقيت أفكارا منبوذة لأشخاص منبوذين، ثم كان الربيع العربي عام 2011م الذي جعل من الحديث عن التطبيع "جريمة شعبية" وكانت مشاهد اقتحام وحرق السفارة الاسرائيلية في القاهرة زاجرا ورادعا لكل من امتهن الترويج لفكرة التطبيع خلال الأعوام السابقة، وسادت حالة ثورية في الأقطار العربية علا معها شأن معاداة الصهيونية ونبذ كل علاقة مع العدو الصهيوني حتى وصل الامر لنقاش مصير اتفاقية كامب ديفيد في ظل ثورة 25 يناير المصرية.
ثم كانت الثورة المضادة التي قضت عمليا على ثورات الربيع العربي وأحالته الى شتاء عاصف على كل القيم والمبادئ التي مثلها الربيع العربي، فانطلقت فكرة التطبيع من عقالها وأصبح هناك تسابق على ترويج التطبيع فنيا وثقافيا ورياضيا، حتى وصلنا الى اتفاقية أبراهام للتطبيع بين الامارات والبحرين ثم اتفاقية التطبيع مع السودان فالمغرب ولا ندري اين يصل بنا مسار التطبيع. مما سبق نلاحظ أن فكرة التطبيع تقوى وتضعف مدا وجزرا وفقا للحالة الشعبية، فاذا كانت الحالة الشعبية ثورية انكفأت فكرة التطبيع الى حد التلاشي، واذا كانت الحالة الشعبية ساكنة انتعشت فكرة التطبيع وتمددت، وهذا يشير الى أن التطبيع مهما تبهرجت صوره وتعددت ألوانه وحشدت له وسائل الاعلام فانه يبقى حالة رسمية تعبر عن توجهات حكام سواء كانوا مقتنعين به أو خاضعين لضغط من قوى أخرى أجبرتهم عليه.
ولذلك تدرك (إسرائيل) أن تطبيع الحكومات والنظام العربي الرسمي معها سيُبقي عملية التطبيع عملية سطحية بلا جذور سرعان ما تقتلع وتندثر عند أي تحرك شعبي في أي من بلدان التطبيع، وهي تدرك تماما أنها ملفوظة " كدولة" شعبيا حتى لو روج الإعلام غير ذلك، وهنا يبرز السؤال المهم: ماذا لو طبع العرب جميعا مع (إسرائيل)؟ كيف سيكون حال الشرق الأوسط على وجه العموم؟ وكيف سيكون حال القضية الفلسطينية على وجه الخصوص؟
للإجابة عن هذا السؤال دعونا نتصور الاحداث تبعا لما هو متوقع لو سار قطار التطبيع حتى اخر محطاته بالشكل والوتيرة التي يسير عليها الان.
لنتصور أن الدول العربية طبعت كلها مع "إسرائيل" وانسابت العلاقات بين الحدود في كافة المجالات التجارية والرياضية والفنية، وأصبح تواجد العرب في تل ابيب والقدس ويافا وحيفا طبيعيا وبالمثل تواجد الصهاينة في كل من القاهرة وأبو ظبي والرباط والخرطوم والرياض وعمان وبغداد ودمشق وكافة عواصم ومدن العرب، ولنتصور أن بعض اليهود قرر العودة للعيش في بلده العربي الأصلي الذي عاش فيه آباؤه وأجداده وبالمثل قرر بعض العرب الإقامة في القدس أو تل ابيب أو حيفا، وانتهت حالة العداء تماما وحلت محلها حالة السلم والوئام، هذا بالنسبة للعرب أما بخصوص الفلسطينيين فلنتصور انهم عاشوا حالة حكم ذاتي في مناطقهم وفتحت الحدود بينهم وبين "إسرائيل" وامتدت جسور التواصل بينهم وبين فلسطينيي كفر قاسم والطيبة والناصرة وأم الفحم وباقي المدن والقرى العربية في الداخل.
ضمن هذا التصور المثالي الحالم سيصبح الصهاينة مجرد حلقة في فلاة عربية شاسعة سرعان ما سيذوبون فيها، فهل هذا هو السيناريو الذي تسعي اليه "إسرائيل"؟ والجواب طبعا هو لا حتى لو كان بعض السذج من العرب يظن ان هذا السيناريو قابل للحدوث ويروج لفكرة التطبيع على هذا الأساس، والسبب في عدم حدوث مثل هذا السيناريو أنه يتناقض مع الهدف الذي أقيمت من أجله "إسرائيل" كمشروع غربي في المنطقة يهدف الى إبقائها بؤرة توتر تمنع حدوث أي نهضة عربية سواء كانت على أساس الوحدة أو الاقتصاد، وإبقاء الدول العربية شظايا متناثرة ضعيفة تعيش تحت الحماية الغربية خشية الاخطار التي تتهددها. و"إسرائيل" هي اللاعب الرئيس في هذا المخطط ولولا هذا الدور لما وجدت.
وبالتالي فإن أي عملية "تطبيع" تحدث هي عملية كاذبة ليس الهدف منها التطبيع كما يفهمه السذج وانما زيادة السيطرة الأمنية والعسكرية والاقتصادية لـ"إسرائيل"، ولذلك ستسخر "إسرائيل" كل امكانياتها لمنع تجاوز هذا الهدف تماما كما حدث في اتفاقية أوسلو التي حولتها "إسرائيل" من مسار لإقامة دول فلسطينية الى وكيل أمني للاحتلال مربوط به وجودا وعدما فهل يفقه العرب؟