بعد تسلل الوباء لقطاع غزة استنفرت أطقم وزارة الصحة على مستوى القطاع كاملًا، وصدرت التعليمات باتباع سياسات مختلفة في العمل، حيث بدأت الوزارة في تنفيذ خطط الطوارئ المعدة، ووضعت برامج خاصة للتعامل مع كل السيناريوهات المحتملة لانتشار وباء أو جائحة كورونا، في وقت تمر فيه مرافق وزارة الصحة بأزمات بالغة من جراء الحصار الإسرائيلي، وسياسة التمييز التي تمارس على أساس جغرافي من قبل قيادة السلطة في رام الله لاعتبارات سياسية.
فقد أُطلقت نداءات عاجلة من قبل الوزارة وعلى لسان ناطقها والمتحدث باسمها "أشرف القدرة" في مناسبات متكررة لوجود أزمات دوائية صعبة وخطرة، إضافة إلى النقص الحاد في المستهلكات الطبية، ومحدودية مستلزمات الوقاية المرتبطة بالخدمات التي تقدم لمصابي جائحة كورونا، لكونها لا تكفي لأكثر من شهر في ظل الأعداد الزائدة من الإصابات.
فالأمر لم يتوقف عند الدواء والمستهلكات الطبية، فالقطاع أصبح بحاجة ماسَّة لإدخال العديد من الأجهزة للمختبرات لضمان رفع القدرة على إجراء الفحوصات الخاصة لمصابي جائحة كورونا، في ظل تهالك أجهزة الفحص المخبري، والأدهى من ذلك عدم كفاية أجهزة التنفس الموجودة في المشافي ما ينذر بوقوع كارثة صحية وإنسانية غير مسبوقة قد تلحق بالقطاع.
لكن وعلى الرغم من هذه الظروف الكارثية، والبيئة الصحية الخطرة، والمقومات المحدودة، فإن ذلك لم يؤدِّ لتراجع الخدمة التي يقدمها هؤلاء الأبطال والذين أطلق عليهم مؤخرًا بما عرف (بالجيش الأبيض) لأن ما يقدمونه من عمل يرقى لمستوى فعل الجيوش التي تستنفر قواها لحماية الوطن من الخطر الخارجي والداخلي، وقد قدم بعضهم روحه فداء لهذا الوطن لاحتكاك الأطقم الطبية بشكل مباشر مع المصابين وتحركهم في مناطقة موبوءة أو مصنفة حمراء.
وقد نقلت لنا وسائل الإعلام مشاهد صادمة ومؤلمة لأطباء وممرضين، وغيرهم من أطقم الوزارة، وهم يتحدثون مع أطفالهم من خلف الزجاج، وينامون على الكراسي في ممرات المشافي، أو يستلقون على الأرض لأخذ قسط محدود من الراحة، ليتمكنوا من استئناف إجراء الفحوصات ومواصلة رعاية المرضى، فعشرات منهم بقي لأسابيع على رأس عمله بعيدًا عن أسرته كي يساهم في إنقاذ أهلنا وشعبنا في قطاع غزة.
فالمشاهد المؤلمة التي نعايشها مع هذا الجيش "بالزي الأبيض" وحالة الإنهاك التي لحقت بالكوادر الصحية، وواقع الاستنزاف الذي يمر به القطاع الصحي يفرض على الجميع استشعار حجم مسؤوليته الوطنية والأخلاقية أمام هؤلاء، فكلما زاد الاستهتار زادت الإصابات، وكلما سخرنا من الإجراءات الوقائية المتخذة فإننا نساهم في إهدار طاقة هؤلاء العظماء، بل نشارك فعليًّا في (جريمة كبرى) ربما تؤدي في لحظة حرجة لانهيار المنظومة الصحية برمتها.
لذلك فإن ما تفعله وزارة الصحة في هذه اللحظات الحرجة ليس بالجهد البسيط أو العمل الخدماتي الطبيعي، فهي في حالة مواجهة مباشرة مع جائحة استوطنت البلد وبدأت بمهاجمة الجميع، فالمشهد في حقيقته "حرب فعلية" مع عدو غير مرئي للناس لكن أعراضه أو "عوارضه" كما يقول البعض ظاهرة على أجساد المرضى وتفتك بأرواح الناس.
الأمر لا يتوقف عند وزارة الصحة فجهات حكومية أخرى تعيش في حالة استنفار دائم لحماية الجبهة الداخلية ومساندة الوزارة، إضافة إلى مساهمة ومساندة مهمة وفعالة من فصائل المقاومة التي تشعر بخطر حقيقي في حال فقدنا السيطرة على هذا المرض، وتداعيات ذلك على المستوى الوطني، والتحديات الخارجية في ظل تنامي مستوى التهديدات الإسرائيلية بشن عدوان جديد على القطاع مستغلًّا الوضع الصحي الصعب الذي نمر به.
إن ما يجري الآن في غزة يدفع الجميع لاستشعار الخطر خصوصًا بعد المناشدات الأخيرة التي أطلقها أطباء في المشافي، وخبراء، وحقوقيون، وقيادات سياسية، داعين أطرافًا دولية للتدخل نحو توفير دعم عاجل لمساندة وإنقاذ مرافق وزارة الصحة، ومشددين على ضرورة وقف الإجراءات العقابية التي تفرضها السلطة، وهذا بدوره يحتم على السلطة الفلسطينية ووزارة الصحة في رام الله وقف التمييز على أساس مناطقي وجغرافي في توزيع المساعدات والحصص والمنح الطبية العاجلة.
كما يفرض عليها تنحية الخلاف السياسي في ظل المخاطر الصحية التي تتهدد القطاع، وهي دعوة للمجتمع الدولي لممارسة ضغوط على الاحتلال لرفع الحصار وإدخال المساعدات اللازمة بعيدًا عن الابتزاز والمساومة التي تمارسها حكومة الاحتلال.