خصصت الأمم المتحدة يوم 18 من ديسمبر/ كانون الأول يومًا عالميًّا للاحتفاء باللغة العربية، وهي اللغة الأم لما يفوق الأربعمائة مليون فرد، واعتبرت من أهم ست لغات معتمدة للاستخدام في منظمة الأمم المتحدة. واحتفاء بهذا اليوم، تحرص غالبية البلدان العربية على أن تشارك في هذه المناسبة بإقامة نشاطاتٍ ترمي إلى تسليط الضوء على الخط العربي، وإقامة ندواتٍ يلقي فيها المتخصّصون في اللغة محاضراتٍ حول أهمية رفع الوعي بأهمية اللغة العربية، والتشجيع على تعلّمها وإقامة بعض الأنشطة الثقافية والأدبية.
ولكن، يبقى السؤال قائمًا باستمرار حول حيوية هذه اللغة، ومقدرتها على التطوّر، طالما من ينطقون بها شعوبٌ باعدت بينها وبين ركب الحضارة قرون، حتى ألفت نفسها في العصر الحالي، عصر الثورة الرقمية، غريبة عنه، عاجزة عن مواكبته، غارقةً في لجّة الجهل والحرمان والفقر وانعدام الحقوق، وفي المشكلات والتحدّيات الوجودية والحروب. هل يكفي أن يتّكئ هؤلاء الملايين الأربعمائة على مقولة إن القرآن حافظ للغتهم، ويناموا في العراء على تخوم الركب الحضاري، المندفع نحو المستقبل؟ الفرق شاسع ما بين أن تحفظ اللغة، كما لو أنها كائن محنّط يحتفظ بملامح الجمال، وأن يكون هذا الجمال حيًّا واعدًا بالازدهار والتجدّد والحفاظ على طاقته الحيّة.
كانت للعرب، في واحدةٍ من فترات التاريخ، بصمتهم الدامغة على الحضارة الإنسانية، عندما كانوا يعيشون في عصر خلافةٍ مزدهرةٍ احتوت العلماء، ونقلوا المنجز الحضاري عن الأمم الأخرى، وعرّبوا المصطلحات، وابتكروا ووضعوا مصطلحات لمبتكراتهم، وكانت تجارتهم مزدهرةً، ويتبادلون الخبرات مع باقي الشعوب. لذلك نرى مفردات عربية كثيرة موجودة في لغات أخرى، ودخلت قواميسها. ولكن منذ بداية الانحدار الذي أعقب تفتت الإمبراطورية العربية في القرن الثالث عشر، وما تلاه من جمود وتراجع عن ركب الحضارة، وتقلّص النشاط التجاري ووقوع المنطقة تحت الاحتلال العثماني الذي لم يقدّم شيئًا يُذكر للبشرية غير السيطرة بحكم القوة، ثم الاستعمار الغربي، وتجزئة المنطقة إلى دويلات، وخضوعها بعدها إلى أنظمة مستبدة حوّلتها إلى دول فاشلة، فإن الفجوة بين العرب والغرب الذي أنجز ثورته الصناعية ودوله الحديثة قد ازدادت عمقًا واتساعًا، وازداد جمود اللغة العربية، خصوصا في ميدان العلوم والتكنولوجيا، على الرغم من أن العصر الراهن عصر التقنيات بالمطلق.
لو تمعّنّا باللغة المنطوقة، أي باللغة بما هي عليه في وقتنا الراهن، لهالنا ما أنتجته السنوات العشر الدامية التي سمّيت الربيع العربي من مفرداتٍ فرضت نفسها على التداول، وصار بعضها خاضعًا لقواعد النحو والصرف، ودخلت القاموس المحكي، ومن المرجّح أن الزمن كفيلٌ بمنحها مكانًا في قاموس الفصحى التي تحرص الدول العربية على التنبيه إلى أهميتها في اليوم العالمي المرصود لها، فكلمة داعش مثال دامغ، صارت المفردات المشتقة منها تتردّد بأريحية على الألسنة، داعشي، دعدوش، دعيّش، دعيدوش، اندعش، مدعوش.. إلخ. وقبلها كلمة شبّيح، شبّح، يشبّح، شبّيحة، تشبيح،.. إلخ. حتى كورونا أخذ الناس يصرّفونها، كورنّا، كورنت، مكورن، تكورن.. إلخ.
هذه هي المفردات الجديدة التي دخلت لغتنا "الجميلة" التي دأبت الأنظمة على حمايتها بالقوة، بخنقها ومنعها من الانفتاح على الحداثة بقوة القانون، فلا ننسى القانون الذي جرّم الأسماء الأجنبية في سورية، والدروس الجامدة التي احتلت مساحة من الفضاء التلفزيوني الرسمي يقدّمها متخصص في اللغة مهمة برنامجه استدراج مفردات من رفوف منسية في قاموس اللغة لم تعد صالحة للتداول، وإنفاق الوقت متغزّلًا بها، علمًا أن المفردات التي يمكن أن تلاقي لها مكانًا في التداول، فإنها تفرض نفسها مثل الكلمات الآنفة التي هي نتاج السنوات العشر الدامية. بينما في ألمانيا، على سبيل المثال، يتابع المختصون، بالملاحظة والإحصاء والدرس، الكلمات التي تتكرر في التداول بين الناس، كي يطوّروا قاموسهم الشهير "دودن"، الذي لا يقتصر فقط على توضيح اللفظ والمعاني وقواعد التصريفات اللغوية، وإنما يحتوي كذلك على نصف مليون من الأمثلة التوضيحية. وإضافة كلمات جديدة إلى القاموس تقع على عاتق هيئة تحرير دار دودن للنشر، التابعة لمعهد بروكهاوس البيبليوغرافي، ويتم اعتماد الكلمة بناء على مدى ذيوعها واستخدام الناس لها، وهي غالبًا ترتبط بقضايا معاصرة أو راهنة، وليس هناك من خوفٍ على ضياع اللغة أو إضعافها، فرئيس هيئة تحرير دار نشر "دودن" غير قلق، وليس متفقًا مع المطالب التي تذهب بعيدًا في الخوف، وتقييد دخول الكلمات الجديدة، فهو يعتقد أن المواطنين ليسوا في حاجة إلى وصاية، وأن في وسعهم التوصل بأنفسهم إلى قرار في هذا الشأن، ويعطي مثالًا: وإذا ما كان أحدهم يفضل استخدام كلمة "Fahrstuhl" أو "Aufzug"، وكلاهما تعنيان "مصعد" بالألمانية، فإن الآخر قد يحبذ الكلمة الإنكليزية وهي "Lift". وكما يرى فإنه إذا لم تعجب كلمة بعينها أحدهم، فعليه ببساطة عدم استخدامها. أليس هذا الموقف دليل احترام لإرادة الشعوب وحقها في ابتداع حياتها؟ وحماية للديمقراطية التي تتغلغل في النسيج الدقيق للحياة؟
إذا كان هناك من مبرِّر للخوف على اللغة العربية التي يتكلم بها أربعمئة مليون إنسان، فهو الخوف من عجز هذه الدول عن إنتاج الحضارة، والخوف من مشروعٍ قادمٍ باندفاع إعصار وراءه دولة محتلة غاصبة لفلسطين، قائمة على الاستيطان وتوسيعه، تتهافت الأنظمة العربية على أعتابها من أجل التطبيع معها. تنتهي السنة الحالية بتغييرٍ جذري لواقع عاشت عليه الشعوب العربية عقودًا تحت تأثير شعارات كبيرة آسرة، استبدَّت بالمشاعر، وسكنت الضمائر من دون فهم دقيق لها، أو من دون أن يكون للشعوب دورٌ فيها غير الامتلاء بها، من أجل الإبقاء على أهبة الاستعداد لخوض حروبٍ تنتهي بالهزائم، وتدفع فواتير المقاومة وتحتمل استبداد الأنظمة واستلابها حقوقها تحت ذريعة مقاومة الاحتلال، ومنعه من تنفيذ مشروعه، بينما تستثمر (إسرائيل) الزمن في تنمية مشروعها الكبير ومشاريعها الصغيرة، فيستمرّ قضم الأراضي الفلسطينية، ويستمر إسكان المستوطنين، وتنتزع الاعتراف بملكيتها ما استولت عليه بالقوة، وما احتلته في حروبنا "التحريرية". ينتهي هذا العام بكلمة "التطبيع" التي لا تحتمل أكثر من معنًى عريض، أن يكون وجود (إسرائيل) بمشروعها الحالي أمرًا طبيعيًّا، حتى لو لم يبقَ للفلسطينيين في أرضهم أكثر من ذاكرةٍ يحملونها في صدورهم، ويورّثونها للأجيال كديانة باطنية، وبالتالي تحطيم فكرة العداء مع الكيان الصهيوني، بغرَض جعل الاحتلال الاستيطاني في فلسطين أمرًا طبيعيًا أو مقبولًا أو عاديًا.
هذا التطبيع الذي لم تستطع دولة واحدة من بين الدول العربية أن تمارسه مع دولة عربية أخرى، سوف يسهّل تحقيق حلم إسرائيل، ويرسخ استراتيجيتها بأن تكون الدولة الأقوى المهيمنة في المنطقة، تخترق محيطًا كبيرًا يمتلك كل مقوّمات أن يكون وحدة اقتصادية ومالية وثقافية، وكل ما يمنحه أسباب القوة والاستقرار والازدهار والنمو، بينما لم تستطع وحدة أو اتحاد بين إقليمين أو دولتين أن يصمدا سنوات معدودة. هذا المدى الشاسع الممتد من المحيط إلى الخليج، والذي يتكلم اللغة العربية، يشكّل أكبر حوض موارد لدولة إسرائيل، وأوسع سوق لمنتجاتها، الدولة المتفوقة علميًّا التي تعمل بدأبٍ على التطوير الذاتي والنمو ومواكبة العصر. وفي حالنا، نحن أبناء هذا الوطن مترامي الأطراف، لن نكون أكثر من تابعين لها، ومرتبطين بعجلتها، وفاقدين أسباب النمو والازدهار، وبالتالي الإنتاج بما ينسجم مع متطلبات الحياة الراهنة، ومنه الإنتاج المعرفي والثقافي، وطرح لغتنا على العالم، اللغة التي ستكون مهدّدة أكثر من غيرها.
كيف يمكن أن نحمي لغة تزداد الهوة اتساعًا بينها وبين الابتكار والتطور؟ الكائن الذي يحتاج إلى حماية هو الكائن الضعيف الذي يعاني من تردّي أجهزته الحيوية، ولا يستطيع العيش والنمو، فإذا كانت لغتنا بحاجةٍ إلى حمايةٍ، فهذا برهانٌ يجب عدم الاستهانة به، على أن لدينا مشكلات بنيوية تحتاج تدخّلا عاجلا، مشكلات لها علاقة بقدرتنا، بوصفنا شعوبا وأمما، على أن ننهض ونسترد عافيتنا وننتج المعرفة ونصبح قادرين على المساهمة في الحضارة الإنسانية، عندها ستكون لغتنا مرنة مزدهرة متجدّدة، وستبقى ثقافتنا قادرةً على أن تتحرّر وتتخلص من أي تبعية، وسيكون المشروع الصهيوني غير قادر على ابتلاعنا وابتلاع هويتنا.