فلسطين أون لاين

الجديد في ملف التطبيع

شكّلت اتفاقية التطبيع التي وقّعها المغرب مع الكيان الصهيوني تطورًا جديدًا في مسار ملف التسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي. فمملكة المغرب التي طالما كانت تقف على مسافة من اتفاقيات التسوية والسلام مع إسرائيل، دفعت بنفسها إلى توقيع اتفاقية سلام كامل مع إسرائيل في مقابل الحصول على امتيازات سياسية، في مقدمتها اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء. وقد سبق ذلك توقيع السودان اتفاقية سلام مع إسرائيل، بعد أن افتتحت الإمارات مسيرة التطبيع، داعية كل الأطراف العربية إلى توقيع اتفاقيات ثنائية مماثلة. ويبدو من التبادلات السياسية المرافقة لتلك الإعلانات أن الدول العربية أصبحت تميل إلى تحقيق انتصارات فردية وشخصية على حساب القضية الفلسطينية الراكدة.

يلاحظ أن الخروج التدريجي من سردية العداء مع إسرائيل قد بدأ منذ توقيع اتفاقيات أوسلو 1993، حيث استندت سلسلة المفاوضات بين الطرفين إلى عاملين أساسين: تنحية أطراف الصراع الأهم، بحيث تتحول أدوارهم من دعم المواجهة إلى رعاية المفاوضات، كما الدور المصري. فرض الواقع السياسي الداعم للوجود الصهيوني، بالاستمرار في عمليات تهويد القدس وبناء المستوطنات ومحاصرة المقاومة الفلسطينية دوليًا وعربيًا. وقد عمدت الأطراف العربية المختلفة إلى موقف موحد، وهو السماح بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، مع وضع إجراءات لحق العودة للاجئين، والحفاظ على القدس عاصمة فلسطينية أو وضعها تحت إشراف دولي، في مقابل تلميحاتٍ معلنةٍ واتفاقيات أخرى غير معلنة حول نزع سلاح المقاومة الفلسطينية والدخول في علاقات طبيعية مع إسرائيل نظير هذه الترتيبات. وبصرف النظر عن الأحداث الكثيرة التي شهدتها العقود اللاحقة لبدء مفاوضات التسوية 1993، دائما ما كانت العلاقات العربية الإسرائيلية طي الكتمان أو مغلفة بالحديث عن الحقوق التاريخية الفلسطينية والعربية في القدس وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين. ومن ثم التساؤل الآن: ما الذي جدّ لاتخاذ منحى جديد في هذه العلاقات؟

يلاحظ أن بداية الإعلان عن إمكانية القبول بعلاقاتٍ عربيةٍ طبيعيةٍ كاملة مع الكيان الصهيوني مقابل ترتيبات سياسية تمثلت في الاتفاقية (المبادرة) العربية برعاية سعودية (2002)، إلا أن تلك المبادرة لم تكن محل ترحيب أو حتى اهتمام من الطرف الإسرائيلي. والسبب أنه لم تكن هناك أي متغيرات سوى ما فرضته المقاومة المسلحة للدفع بانسحاب (إسرائيل) من قطاع غزة إبّان فترة حكم شارون، ومن ثم ما الدافع لتقديم أي تنازلاتٍ للفلسطينيين؟ فالمفاوضات كانت كالطحالب فوق المياه الراكدة التي نجحت إسرائيل في استغلالها لبناء مزيدٍ من المستوطنات على الأراضي الفلسطينية، بينما الواقع العربي يمر بعدة منعطفات مهمة، ساهمت في تشكيل خريطة تحالفات الممانعة والتطبيع مع الكيان الصهيوني، والتي ارتبطت بحجم المصالح العربية الأميركية المتبادلة التي استندت إلى أمرين: تبادل المنافع الاقتصادية، والحصول على الدعم السياسي والعسكري، خصوصا مع تصاعد الوجود الإيراني في العراق بعد الحرب الأميركية في 2003، وفي لبنان عن طريق حزب الله في أعقاب الحرب الإسرائيلية على لبنان 2006، وفي سورية منذ 2012. هذا بالإضافة إلى موجات الاحتجاج العربي 2011 التي طاولت دولا خليجية كالبحرين، ودولة عربية حليفة مركزية (مصر). ومن ثم كانت هناك حاجة إلى تدعيم أواصر العلاقة بين الطرفين، بشكل يسمح باستمرار الحكم السياسي لعدد من دول الحلفاء، في مقدمتهم مصر عبد الفتاح السيسي، والحفاظ على أمن دول مجلس التعاون الخليجي من تصاعد النفوذ الإيراني في المنطقة، ومن أي احتجاجاتٍ شعبية واردة. بناء على ذلك، تحول الخطاب العربي من فكرة العداء لإسرائيل (وإن كان عداءً شكليا) إلى التحالف والتعاون الاستراتيجي لمواجهة الخطر الإيراني، استنادًا إلى عدة ترتيباتٍ تخص القضية الفلسطينية، أهمها:

استبدال الحقوق التاريخية الفلسطينية العربية والإسلامية بحزمة من الاستثمارات الاقتصادية والتدفقات النقدية قدرت بحوالي 50 مليار دولار في عشر سنوات، حسب ما أعلنت عنه صفقة القرن 2017، بحيث يتم التراجع عن حق العودة وإقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس إلى القبول بدولة (إن جاز القول) ممزّقة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، تخترقها الطرق المؤدية إلى المستوطنات الإسرائيلية، تقوم عليها عاصمة إدارية نواحي القدس. هذا مع النزع الكامل لسلاح المقاومة في غزة. يمكن للفلسطينيين، حينئذٍ، التمتع بفوائض الاستثمارات التي سيتم ضخها لذلك الكيان السياسي، والدخول في علاقات طبيعية مع إسرائيل.

استنادًا إلى تلك التسوية الإسرائيلية الفلسطينية، تدخل الدول العربية في علاقات طبيعية سياسية، ثقافية واقتصادية علنية، مع إسرائيل، يتم بناء عليها التعهد بعدم دعم أي طرف حركات سياسية معادية أو اعتداءات تحدُث ضد الطرف الآخر، ما يعني ضمنيًا التمهيد للدخول في تحالف عسكري سياسي بين إسرائيل والدول العربية.

تُنذر هذه الترتيبات التي أصبحت معلنةً في نصوص "صفقة القرن" التي طرحتها إدارة ترامب، وبنود اتفاقيات التطبيع الثنائي بين الإمارات والبحرين وإسرائيل، ببداية مرحلة جديدة من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، يتم فيها تقديم إسرائيل عربيًا، من دون خجل أو مواربة، حليفا استراتيجيا، ويتم فيها استبدال الحقوق التاريخية بالمنافع الاقتصادية أو السياسية الخاصة لعدد من الدول العربية، كما في حالة المغرب، الأمر الذى يشكل خطرًا كبيرًا على القضية الفلسطينية، خصوصا مع غياب الوجود السوري، وتجفيف سبل المقاومة ومصادرها، ثقافية، اقتصادية، أو حتى عسكرية.