انتهت في 14 ديسمبر/ كانون الأول 1992 المدة التي حددتها كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس، لحكومة الاحتلال؛ من أجل الإفراج عن مؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين المعتقل لديها، لقاء الإفراج عن الجندي الإسرائيلي الأسير الرقيب أول "نسيم توليدانو"، حيث خسر الاحتلال حياة جنديه إثر تعثر الوصول لاتفاق تُبرم فيه صفقة للتبادل.
وعقب يومين من انتهاء المدة، ألقت الكتائب جثة الجندي الإسرائيلي على طريق القدس- أريحا، ما أدى إلى اشتياط رئيس وزراء الاحتلال آنذاك إسحاق رابين غضبا، وإعلانه من داخل "الكنيست" الحرب على حركة حماس، فبدأها بإبعاد 415 من قادة العمل الإسلامي جُلهم من حركة حماس إلى مرج الزهور في جنوب لبنان، والذي وافق 17 ديسمبر الجاري، ذكراها الـ28.
وعقب قرار رابين، داهمت قوات الاحتلال منازل من وضعت أسماءهم على لائحة الإبعاد، وجُمعوا جميعا بشاحنات غير مخصصة للنقل الآدمي، وسارت الشاحنات لساعات عديدة فظن المبعدون أن الأسر هذه المرة لن يكون في السجون المعروفة والموجودة في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة، لكن أقصى ما توقعوه أن تكون وجهتهم نحو سجن صحراء النقب المحتل.
بعد مضي 60 ساعة ولم تصل الشاحنات إلى مقصدها، أدرك المبعدون أن القضية أكبر من الاعتقال، وأن وجهتهم ليست النقب، لحظات حتى وجدوا أنفسهم على الحدود اللبنانية بعد أن أبلغهم الضابط الإسرائيلي المسؤول أنهم مبعدون بقرار من رابين.
مخيم العودة
كان رفض الدخول إلى لبنان والاكتفاء بإقامة مخيم على الحدود اللبنانية على تلال الثلج من أكثر القرارات الاستراتيجية التي اتخذها المبعدون، إذ صنعوا لأنفسهم مجتمعاً داخل هذا المخيم وأطلقوا عليه اسم "مخيم العودة"؛ لترسيخ مبدأ العودة القريبة إلى الأراضي المحتلة عام 1948.
ونجح المبعدون في تحويل مخيمهم إلى دولة صغيرة، واتبعوا أسلوباً إيجابياً في تنظيم العمل، فقسموه إلى لجان عديدة وانتخبوا من يديرها، فبرزت بينها اللجنة الإعلامية التي استطاعت بناطقيها الشهيد د. عبد العزيز الرنتيسي متحدثاً باللغة العربية باسم المبعدين، ود. عزيز دويك متحدثاً باللغة الإنجليزية، في حشد الرأي العالمي لقضيتهم وإيصالها لأكثر من 100 دولة.
لم يقتصر جهد المبعدين على الجانب الإعلامي فقط رغم أهميته الكبرى، إلا أنهم ساروا بخط متوازٍ في البناء والتربية، فأسسوا جامعة "ابن تيمية" التي ضمت 88 طالباً جامعياً، حاضر فيها العديد من الأكاديميين المبعدين، وكان التدريس فيها على أسس علمية وجامعية كالمعتمدة في جامعات فلسطين.
كما نجحوا في التنسيق مع الجامعات الفلسطينية في الضفة وغزة لاحتساب المساقات التي تدرس في جامعة "ابن تيمية"، وقد تخرج في الدفعة الأولى 15 طالبا، واعتُمدت شهاداتهم في جميع الجامعات الفلسطينية بعد ذلك، كما أقامت الجامعة دورات تدريبية لغير طلبة الجامعات، فاستغلوا أوقاتهم، وطوّروا قدراتهم.
عيادة الإبعاد
أراد الاحتلال أن يكون الإبعاد منفى ونكبة لقادة العمل الإسلامي، لكنهم جعلوا من نكبتهم رحلة وتجربة في كل المجالات، فوظفوا طاقاتهم جميعا، وأنشؤوا عيادة طبية يديرها د. عمر فروانة تعمل على مدار الساعة لمداواة مرضاهم، نجحت في إجراء عدة عمليات جراحية لعدد من المبعدين، حتى أن عدداً من سكان منطقة مرج الزهور تلقوا العلاج فيها.
رغم ذلك، لم يتوقف المبعدون عن تنظيم المسيرات والوقفات الاحتجاجية للمطالبة بحقهم في العودة، وبرزت من هذه الفعاليات "مسيرة الأكفان" في إبريل/ نيسان 1993، التي لبس فيها المبعدون أكفانهم واتجهوا نحو الحدود لرفضهم أي قرار سوى العودة إلى ديارهم.
راهن الاحتلال على مدار سنة كاملة على قبول المبعدين بالواقع الذي حاول فرضه، إلا أنهم نجحوا في كسر قرار الإبعاد ووأد هذه السياسة في مهدها، فوافق في سبتمبر/ أيلول 1993 على عودة 189 مبعداً إلى ديارهم، فيما عاد الباقون في ديسمبر من العام ذاته.
لم يفلح الاحتلال في إبعاد قادة العمل الوطني والإسلامي في تسعينيات القرن الماضي، حيث عادوا أكثر عزيمة لمقاومته، بعدما كسبوا تعاطفا عالميا مع قضيتهم.