بدايةَ كلِ فصل دراسي، وبعد أن يُنهي الأكاديميُ في أول محاضرةٍ له الحديث حول مادته المقررة ويبدأُ بالتعارف على الحاضرات، تتلاحقُ الأسئلة منه لكثيرٍ من الطالبات عن البلدة الأصلية حين تختلطُ عنده أسماء العائلاتِ وأصولها، فيقول مثلاً: "أأنتِ من مجايدة المجدل أم الجورة؟". تروق لي فكرة ربط الإنسان بأصله كثيراً، رغم أن المسألة لا ترتبط بي شخصياً، كوني مواطنة لم تذق لوعة الحنين لبلدتها الأصلية، فالأمر يتعلق بثقافةٍ تشكلت في عقل كل لاجئٍ فلسطينيٍ مفادها: لكَ بلدةٌ أصليةٌ ستعود لها يوماً، وأنتَ مطالبٌ بالانتماء لها رغم عدم عيشك فيها، اغرسها في قلبك كما الزيتون، وانفض عن ذكرياتها المسموعة والمقروءة غبارَ الزمان.
منذ أن هاجر الفلسطينيون وتوزعوا في أنحاء العالم قرباً من أصلهم أو بعداً، والعودة تؤرق مضاجعهم وتتراءى لهم في أحلامهم، ورغم أن الكثير منهم تأقلم مع أوضاع المجتمع الذي انتقل إليه وحصل على مهنةٍ تكفيه سؤال الناس، إلا أنهم لا ينظرون للحياة على أنها طعامٌ وملبسٌ ومنزلٌ ومهنةٌ فقط، بل هي أصلٌ وانتماءٌ وعراقةٌ. فالتأقلم والاندماج في المجتمعات المؤقتة لا يعنيان نسيان الأصل؛ بل هما من جملة التسهيلات التي تعينهم على ابتداع وسائل العودة المتعددة والمتمركزة حول المقاومة والحفاظ على المبادئ الوطنية.
كم هي السعادةُ عظيمة تلك التي يشعر بها اللاجئون حينما يلتقون بزملاء لهم في الدراسة أو العمل، وهم من البلدة ذاتها التي هاجر أجدادهم منها، تلمع العيون حين يتبادل أصحابها الحديث حول مواقف سمعوها تعود إلى تلك الحقبة الزمنية التي تسبق اللجوء، يتحدثون وهم يدركون بأن جداتهم قد يكنَّ التقينَ عند بئر ماءٍ وتبادلن أطراف الحديث، وأن أجدادهم قد يكونون أصدقاء طفولة شهدت البلاد على لَعِبِهم "الحجلة"، "الغماية"، "طاق طاق طاقية"، فهناك عوامل مشتركة تجمعهم، إنهم يشعرون بها دون أن تنطقها الألسن. إن هذه السعادة الغامرة لهي دليلٌ على أن الأصل لا يزالُ للاجئ مرافقا، والبحثُ عن جيران البلاد هو زيادةُ ارتباطٍ بها وتعلقٍ بكل ما فيها ومَن فيها.
لقد حاول الاحتلالُ الاسرائيلي جاهداً تذويب اللاجئين في البقاع التي هاجروا إليها، لكن الواقع يثبت فشل هذه المحاولات، فحين يُجمع فلسطينيو الخارج في المؤتمر الشعبي الأول من نوعه لهم في تركيا على ضرورة حق العودة بعد مرور ٦٩ عاماً على اللجوء، فهذا دليلٌ قاطع على أن العودة لا تزال بؤرةَ اهتمامهم، وهم في تفكيرٍ دائمٍ بطرق تُعينُهم عليها رغم أن السنين على الخروج من البلاد قد طالت. فالطفل الفلسطيني الذي يعيش اليوم في أوروبا يقول لك: "أنا فلسطيني" رغم أن عيونه تفتحت في بلاد غير بلاده، وعاش مع أناس غير أبناء شعبه، إلا أن والديه علماه ذلك يوم أن تعلم النطق، ورسما في عقله صورةً واضحةَ الملامح عن بلدته الأصلية.
إن الاحتلال الإسرائيلي يسعى جاهداً لشطب قضية العودة من قاموس الشعب الفلسطيني، كونه يدرك أنها القضية الجوهرية والمركزية التي تتفرع منها القضايا الأخرى، وزوالها يعني بطلان بقية القضايا .فلو تساءلنا: كيف تشكلت قضيتا الأسرى والمقاومة؟ فإن التفكير في الإجابة سيقودنا لقضية "حقُ اللاجئين في العودة". فالمقاومةُ ليست سلوكاً عدوانياً هدفه الانتقام، وإنما هي ردةُ فعلٍ طبيعية على اغتصاب الحقوق، والأسرى لم يُغيّبوا في السجون إلا لابتداع وسائل تقودُ بطرق مباشرة أو غير مباشرة إلى استرجاع الحق في عيش اللاجئ في بلدته الأصلية، فالعودة هي القضية الأم التي تشكل صراع الفلسطيني مع الإسرائيلي.
لا بد وأن يكون التأكيد دائماً على أن العودة حقٌ شرعيٌ لكل فلسطيني خرج من بلاده سواء عام ١٩٤٨م أو بعده، ولا يسقط هذا الحق بتقادم الزمن ولا يخضع للتنازل والتفاوض، حتى لو وقّعت جهاتٌ تُمثل الفلسطينيين أو تَدّعي أنها تمثلهم على قبول الفلسطينيين بالبديل، فإن هذا التوقيع باطلٌ ما لم يوقع كل لاجئٍ بكامل إرادته على تخليه عن حقه في العودة.
تحتاجُ العودةُ من اللاجئين أنفسهم إلى العمل الجاد في سبيل تمهيد طريقها، فهم يحتاجون إلى إعداد الجيل الذي سيقود مسيرة التحرير، ذلك الإعدادُ الفكريُ الذي يصلُ فيه صغارُ اللاجئين لقناعة بأن العيش في البلاد الحالية وإن كان داخلَ فلسطين هو عيشٌ مؤقت، كما ويتطلب من الآباء تكوين ثقافة واسعة عند أبنائهم عن بلداتهم الأصلية، تلك الثقافة يمكن أن يساعدَ في تكوينها حديث الأجداد الذين عاشوا في البلاد عن تفاصيل الحياة هناك رغم صغر سنهم وقتها، فالأجداد بصورةٍ مدهشةٍ يعرضون للصغار حياة البلاد وكأنهم يقرؤون تفاصيلها من كتاب، فالزمن الطويل الذي شقَّ أعوامه على وجوههم تجاعيد لم يتمكن من ذاكرتهم التي تزداد مع الوقت قوةً وصلابة. تلك الثقافةُ نحتاجُ إليها في تحطيم مقولة (جولدا مائير) التي اهترأت واهتزت بفعل البوادر المرئية: "الكبارُ يموتون والصغار ينسون" لتحل محلها: "الكبارُ يموتون والصغارُ يزدادون تشبثاً بحقهم في العودة".