فلسطين أون لاين

لحظات "تحبس الأنفاس" وتزرع الفرح في قلوب الأهالي

زراعة "القوقعة".. أطفال يولدون من جديد ويودعون "الحياة الصامتة"

...
تصوير/ رمضان الأغا
غزة- يحيى اليعقوبي:

30 يومًا مرت منذ أن أجريت عملية زراعة القوقعة لطفلها سعيد الجبور، والآن الطبيب يستعد لوضع الجهاز السمعي له، وهو على موعد مع سماع أول صوت في الحياة.

انتظر الطفل الذي ولد "أصمَّ" ثلاث سنوات لهذه اللحظة، كانت الحياة حوله صامتة بلا أصوات، يرى صورة الأشياء تتحرك أمامه، تمضي أيامه كئيبة منعزلًا عن الآخرين، ربما راوده هذا السؤال: "هل حقًّا سأعيش بقية عمري هكذا؟!".

والدته تحبس أنفاسها وهي تضم يديها إلى وجهها، تنتظر بلهفة انتهاء الطبيب من وضع الجهاز، معها ستنتهي ثلاث سنوات من المعاناة وفقدان القدرة على التواصل مع ابنها، ستنتهي شفقة الآخرين عليه، وانشغال البال على مستقبله، انتهى الطبيب من اللمسات الأخيرة، نادته أمه برفق لكن نبضات قلبها مضطربة: "ماما.. سعيد"، يرفع الطفل نظره تجاه مصدر الصوت ليجده من أمه، تلك الصورة التي رآها ثلاث سنوات ولم يستطِع مناداتها أو سماع صوتها، سقطت دمعة منه بينما تجمعت الدموع حول حواف عيني أمه قبل أن تجري على خدها، تخشى أنها تعيش حلمًا ستستيقظ منه، وضمته إلى صدرها، ولم تغمرها فرحة قط.

دمج أكاديمي

يجلس سعيد على كرسي وطاولة تشابه لون الشمس، تكسر جمال ملامحه القمحية ابتسامته المشرقة، في إحدى غرف قسم السمعيات، بمستشفى الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني للتأهيل والأطراف الصناعية "الممول من صندوق قطر للتنمية" بمدينة غزة، تسمع أصوات عراك الملاعق مع كأس زجاجية فارغة، وكأنه يعزف سمفونية يطرب سمعه بها، فيبتسم لهذه الأصوات وبجانبه ورقة مرسوم عليها ملعقة، تعيد الأخصائية تأهيله منذ عام ونصف بعد إجراء "عملية زراعة قوقعة له" تمهيدًا لدمجه الأكاديمي بالمجتمع.

تلمح في عيني والدته ابتسامة لا وصف لها، وهي تكلمه ويكلمها، ومع ثقل صوته فإن الصوت الصادر من فم هذا الطفل يعزف ألحان الفرح بداخلها، معه تتراقص كل مشاعر السعادة في قلبها، "بعد ولادة سعيد بسنة وشهرين عرفت أنه أصم ولا يسمع، فاتجهت لمستشفى حمد وأجرينا مدة تدريبات وتأهيل استمرت عامًّا كاملًا، قبل أن تتم له عملية زراعة القوقعة".. تخفي الكمامة ابتسامة ملامحها لكن صوتها ناب في ذلك: "العملية فرحتنا.. صار إنسانًا بسمع زيه زي إخوته".

تبلغ سن سعيد أربع سنوات ونصفًا، لكن عمره السمعي لا يتجاوز عامًا ونصفًا وهو العمر المحتسب من لحظة تركيب الجهاز، "مع ذلك بدأ يتطور مع المجتمع، والآن التحق برياض الأطفال، وأتابع مع المشفى برنامجًا تربويًّا لتأهيله، والمشوار في البداية".

-"كيف حالك؟" -"الحمد لله" -شو اسمك؟ -"سعيد" -مين أنا؟ "ماما".. اختبار على عجالة من الأم لابنها، ثم نفضت عن صوتها غبار المعاناة السابقة بزفرة طويلة سبقتها كلمات الحمد والشكر لمن أعاد روح الفرح إلى قلبها: "تخيل حجم الفرق، كان في السابق إن أراد شيئًا يشدني إليه، مثلًا شرب ماء، أو أي شيء، ولم أكن أطلب منه شيئًا لأنني لا أعرف التواصل معه، الآن أطلب منه فتح الباب، أو جلب الماء وأشياء أخرى".

في قطاع غزة، هناك أكثر من ألف طفل يحتاجون إلى إجراء عملية زراعة "القوقعة"، التي تقدر تكلفتها بـ(35-50) ألف دولار خارجيًّا، إلا أنها تجرى مجانًا بمستشفى "حمد" بغزة، الذي أجرى العملية لـ180 طفلًا، بواسطة طاقم طبي قطري متخصص أشرف كذلك على تطوير قدرات أطباء فلسطينيين على إجراء العملية. وفق رئيس قسم السمع والتوازن فيها بسمة صلاح.

"المهمة ليست سهلة كثيرًا"

شعر ذهبي وعينان خضراوان ووجه ملائكي، في غرفة أخرى تواصل غادة الكحلوت (سبعة أعوام) التفاعل مع والدتها، عليها الآن أن تميز بين أربع ورقات أمامها لجزار، وميكانيكي، وعازف، وطفل يرتب تخته، وعد حروف الهجاء العربية، لكن ليست المهمة سهلة كثيرًا.

الأم وتدعى سميرة الكحلوت تسأل طفلتها: "غادة.. احكي ولد حامل صندوق"، بشكل جيد نطقت الطفلة الجملةَ كاملةً، وحددت الصورة بنجاح، فانهالت أصوات تصفيق حولها من الأخصائيين، معها رسمت ملامح الطفلة ضحكة عريضة، لتنتقل الأم لتمرين آخر "ولد برتب تخته"، فترد الطفلة "تخته" –لأ، اسمعي كويس.. ولد برتب تخته" -ودد برتب تخته، وحددت الصورة بنجاح، ثم انتقلت للحروف التي استطاعت تمييز معظمها، مع صعوبة في النطق قليلًا قبل ترتيبها جيدًا.

هذا المشهد كان نتاج تعب استمر مدة شهرين، تدخل والدتها في تفاصيله أكثر، بعد أن التقطت أنفاسها من التمرين السابق: "لكون ابنتي زرعت القوقعة بسنٍّ متقدمة بخمس سنوات، فهذا تطلَّب جهدًا وتعبًا للوصول لنتيجة جيدة (...) والآن نحن بمرحلة الأفعال، وتنفيذ الأوامر، فترى الشيء وتنطقه ثم تنفذه، مثلًا "رتبِ تختك"، وكذلك الحروف تنطق الحرف منفردًا ثم في كلمات، بداية، أو وسط، أو آخر الكلمة لتثبيته".

"سأقول شيئًا، ما حدث فرق كبير لنا، لكونها الوحيدة التي ولدت "صماء" بين إخوتها، فكان ذلك صدمة كبيرة لنا، حصلت على لغة الإشارة لأجل أن يحدث تواصل بيننا، الآن كل شيء تغير فهي تنادي وتنطق كل شيء تريد".

تصحبها ذاكرتها لمشهد تركيب الجهاز السمعي بعد عملية الزراعة، "يومها أدخل لها الطبيب أصواتًا مختلفة فضحكت، وكانت أجمل ضحكة أراها بها".

تدخل الأخصائية خلود الحلو (فنية قسم سمعي لفظي) في أجواء الحديث، "نعد برنامجًا يستمر عامين، لكون الطفل قادمًا من عالم الصم، مجرد ما أصفق له يدرك الأصوات المحيطة، ثم يدخل مرحلة تمييز الأصوات: صفير، سيارة، حيوانات، ثم كلمات بسيطة وجمل، وفي النهاية تبدأ مرحلة الحوار والمحادثة وهذه تحتاج إلى مدة قبل الدمج الأكاديمي بالمجتمع".

في الغرفة التي تجلس بها غادة، كبقية غرف القسم تجذبك الجدران القماشية العازلة للصوت بألوان ورسومات زاهية، بها لوح للكتابة، وجهاز حاسوب لتشغيل الأصوات، تقول الحلو "الغرفة مجهزة بأدوات وألعاب للمساعدة في الشرح، كي يراها الأطفال ويتم عمل أنشطة، وكل ما كانت الزراعة بعمل أصغر يكون البرنامج التأهيلي أسهل لنا".

وتعرف زراعة القوقعة، بأنها عملية جراحية يغرس فيها جهاز إلكتروني داخل الأذن الداخلية للمساعدة على السمع، وينقسم الجهاز إلى قسمين: الأول داخلي يسمى القوقعة المزروعة، والثاني خارجي يسمى المبرمج أو معالج الكلام، حيث يزرع الجزء الأول في أثناء العملية، في حين يركب الجزء الثاني بعد عدة أسابيع.

خروج من العزلة

لم تعد "زراعة القوقعة" الصوت فقط إلى الطفل محمد أبو حليمة (تسعة أعوام) بل أعادت إليه الحياة، وأخرجته من عالم العزلة والوحدة، يمضي جل وقته في متابعة الرسوم المتحركة وأصوات الأناشيد، وكأنه يعوض نفسه عن مرارة الأيام التي كان يرى صورة صماء لها.

في غرفة أخرى تحاول والدته تعليمه نطق حروف الهجاء، وهو وشقيقه عبد الرحمن (أربعة أعوام)، تحفر في صخور الصبر مع ابنها محمد الذي زرع "القوقعة" قبل عام فقط وهو ما يصعب أمر التعليم، في حين أجرت الزراعة لشقيقه الأصغر قبل ثلاث سنوات.

كانت الأم منهمكة في تدريب الطفلين على تميز الحروف من خلال اختيار مربع الحرف الذي يسمع صوته.

"الحمد لله ريحتنا كتير".. يغمر صوتها الفرح: "تغيرت حياتنا، الآن أستطيع التواصل مع محمد، في السابق كان عصبيًّا لأنه لا يستطيع التواصل مع الآخرين ويعتمد على لغة الإشارة في تميز كل شيء وما زال يحفظها حتى الآن، خاصة أنه كبر، الآن يستطيع تمييز الأصوات".

مشهد زراعة الجهاز السمعي لمحمد، لحظة لا تنسى، ضحكت بعفوية: "أول مرة سمع صار يبكي، سمع صوت أبوه ثم صوتي، كان مبسوطًا ومصدومًا من الأصوات اللي بتمر عليه".

قرب شاطئ بحر غزة، يجذب صرح مبنى مستشفى حمد التخصصي ذو اللون البني بالواجهة المعمارية الرخامية، والنوافذ اللامعة، الأشجار والزهور والحدائق الخضراء مشهد يبعث بالنفث روحًا جميلة، قبل أن يمر نظرك على مداخله الأنيقة تنبعث من أرضية ممراتها رائحة النظافة، فضلًا عن ألوان الغرف الزاهية للأطفال.

"ليست مجرد عملية جراحية"

بدأ برنامج زراعة القوقعة بمستشفى حمد، وفق رئيس قسم السمع والتوازن فيها بسمة صلاح، في شهر فبراير/ شباط 2017، بعد اكتمال بناء المشفى نهاية 2016، وتجهيز المبنى بكل المعدات وتدريب الطاقم، وأجريت الزراعة إلى 22 مريضًا بالفوج الأولى، واستمر إجراء عملية الزراعة التي استفاد منها حتى اللحظة 180 مريضًا.

"لدينا فرق تعقد جلسات سمعية ولفظية للمريض قبل عملية الزراعة للتأكد أنه لا يستفيد من السماعات الطبية، ويتم تجهيز كل الفحوصات الطبية له وتطعيمه للتأكد من عدم وجود موانع جراحية، ثم يقوم الفريق الطبي المكون من سبعة أشخاص يشرف عليه أطباء قطريون وهم: د. خالد عبد الهادي، د. عبد السلام القحطاني، ود. علي السعدي، للعام الرابع على التوالي حيث دربوا طواقم طبية من أخصائيي المشفى ووزارة الصحة على الزراعة".. تقول صلاح لصحيفة "فلسطين".

بعد مرور أسبوعين إلى شهر على إجراء العملية يعود الوفد لتركيب السماعة الخارجية على أذن المريض، "ويكون مولودًا جديدًا يحتاج إلى تدريب ليعود السمع إليه، وهذه معاناة للأهل وشيء ليس بسيطًا، لكن نتيجتها حلوة" كما تقول.

وتردف: "كي يخرج طفل من غزة لإجراء العملية في الخارج فإن تكلفتها تبلغ (35-50) ألف دولار مع فترة تأهيل فقط أربعة أشهر، أما في مستشفى حمد بغزة، فيتم التأكد من حالته الصحية، وتجرى إليه العملية والبرنامج التدريب الذي يستمر من عامين حتى ثلاثة أعوام حسب حالة الطفل، ولا يتحمل المواطن أي تكلفة مادية، والأجهزة التي تزرع لأبناء غزة هي نفسها التي تزرع لأبناء قطر، والمزودة من ثلاث شركات عالمية معترف بها من منظمة الغذاء والدواء الأمريكية".

هذه العملية غيرت حياة أشخاص وأعادت إليهم ضحكات دفنت في مقبرة الصدمة والحوادث المفاجئة التي تعرضوا لها وسلبت سمعهم، هذه الفتاة لا تنساها صلاح: "لقد فقدت سمعها نتيجة الحرب (على غزة)، فقمنا بتأهيلها وأجرينا لها الزراعة، لم أكن أراها تبتسم قط، حتى يوم العملية، يومها رأيتها تسمع لأول مرة وضحكت من قلبها، فقلت لها: "ياااه، لم أرَ ضحكتها من قبل"، فضحكت مرة أخرى وكانت فرحة: "لأني سمعت"".

تعلق صلاح: "الإنسان الذي فقد السمع نتيجة الحوادث أو المرض كالسحايا يعرف هذه المعاناة، فنتعامل مع قسمين الأول من ولد أصم ونستقبله حتى خمس سنوات لأنه يصعب التعامل معه بعد ذلك، والثاني لمن تعرضوا لحوادث سواء كانوا صغارًا أو كبارًا فنستقبلهم لأن لديه لغة (...) لا نتعامل هنا مع الأرقام بل مع إنسان تحولت حياته من الجحيم لعالم الأصوات والحياة"، وفق تعبيرها.