لا يزال التراث الاجتماعي والسياسي الفلسطيني المعاصر يحتاج إلى مزيد من التنقيب والتحقيق، فمع مرور الوقت نستكشف أن الوعي الشعبي العام بالمسألة الفلسطينية كان سباقا في اكتشاف واستشراف مكامن المأساة الفلسطينية، وربما هو ما جعل القضية حية بعد قرن من الزمان الآن منذ الانتداب البريطاني الذي بدأ عام 1920. ومن هذا التراث، الذي لم يأخذ حقه من العناية، التوثيق المكتوب والبصري في كتاب "فلسطين الشهيدة.. سجل مصور لبعض فظائع الإنكليز واليهود 1921-1938".
هذا الكتاب مجهول المؤلف، ويقدم توثيقا بصريا ومكتوبا لأشكال وأنواع الانتهاكات التي ارتكبها البريطانيون واليهود في فلسطين خلال هذه السنوات. وهو يستخدم منهجية توثيق انتهاكات حقوق الإنسان التي تستخدمها التقارير الحقوقية هذه الأيام في وقت مبكر من القرن الماضي؛ لم تتبلور فيه بعد ماهية المنظمات الحقوقية المعروفة لدينا اليوم ولا منهاجيتها في التوثيق.
وعبر سرد زماني في فصول الكتاب، يستعرض أهم الثورات التي اندلعت في هذه الحقبة، مثل ثورة القدس عام 1920، وثورة يافا 1921، وثورة البراق 1929، والثورة الكبرى 1936. ويوضح رد فعل الاحتلال البريطاني واليهود على مثل هذه الثورات؛ من تنكيل بالسكان وخاصة النساء والأطفال. وهي انتهاكات شملت أيضا مقابر للصحابة رضوان الله عليهم، مثل قبر سيدنا عكاشة وتمزيق المصاحف فيه، وكلها مدعومة بالصور والمعلومات.
المثير في الكتاب أيضا أنه يقدم بانوراما بصرية محكمة تروي تفاصيل المظاهرات التي خرجت بشكل سلمي وأعزل، ونوع الاعتداء الذي وقع على المتظاهرين من الشرطة الإنكليزية المدججة بالسلاح. كما تبين الصور مقاومة المدنيين للشرطة الإنجليزية بالحجارة والعصي، وهو تأصيل لفكرة الانتفاضة الأولى وأنها امتداد لحالة مقاومة شعبية كبيرة مستمرة منذ بواكير الاحتلال الإنكليزي لفلسطين.
يستخدم الكتاب أيضا شهادة بريطانيين عاصروا هذه المآسي ودوّنوها، مثل صور وشهادة سيدة تدعى "ميس نيوتن"، والتي نشرت كراسة باللغة الإنجليزية تصف ما حدث كتابة وصورا. ويورد الكتاب بعضا من هذه الصور وعليها كتابة بخط اليد تصف كيفية نسف بيوت الفلاحين الفلسطينيين.
الغريب أن الكتاب لم يُعد طبعه على الرغم من وجود نسخة مخطوطة منه متاحة للتحميل عبر الإنترنت، كما لم أجد نسخا مترجمة منه رغم أهمية المعلومات التي فيه. وقد توقعت أن أجد اهتماما غير مسبوق به لأنه يكشف كثيرا من تفاصيل الانتهاكات بحق الشعب الفلسطيني ويؤنسنها، أي يضعها في القالب الإنساني عبر صور الوجوه وطبيعة الاعتداءات التي حدثت وقتها، بشكل يبين طبيعة ما جرى وقتها من دون تزييف أو تحيز. إذ يكفي مثلا أن تتم طباعة تلك الصورة التي تم فيها وضع الأطفال الفلسطينيين داخل أسلاك شائكة تحت الشمس لتعذيبهم.
فكرة توثيق مجازر وانتهاكات الماضي انتشرت في العقود الأخيرة ليس من أجل محاكمة الماضي، ولكن لضمان ألاّ يتكرر هذا في المستقبل، بالإضافة لجبر أضرار الضحايا. ومن المعروف أنه لا بريطانيا ولا "إسرائيل" اعترفتا بهذه الانتهاكات، ولم يقدم اعتذار أو تعويض عما حدث. والنتيجة لعدم حصول ذلك معروفة، وهي إعادة إنتاج هذه الانتهاكات بشكل أكبر وأبشع.
كان المرحوم الدكتور عبد الوهاب المسيري يرى أن ما يحدث للفلسطينيين هو امتداد للاستعمار الغربي بكل ما يمثله هذا الاستعمار من وحشية وهمجية. وإننا إذ نشهد هرولة عربية مؤسفة نحو تطبيع مجاني، من الضروري أن يواكب ذلك إحياء للمسؤولية الغربية عن هذه المأساة المستمرة حتى اليوم وإعادة الاعتبار للتوثيق الشعبي، خاصة أنه تم بطريقة حرفية ومناسبة لمخاطبة الثقافات واللغات المختلفة. والأمر لا يتعلق بفلسطين فقط، ولكنه رد على كل دعاوى العنصرية التي بدأت تطل برأسها مجدد عبر نوافذ السياسة الغربية.