سياسة الاغتيال التي اعتمدتها "إسرائيل" منذ نشأتها كان لها أهداف عدة، تمثلت في: إما القضاء على قيادة تتمتع بمواهب وإمكانات قيادية ليست موجودة في الصف القيادي المحيط، ومن ثم غياب هذا القائد سيترك أثرًا لا يمكن تعويضه، ما يؤدي إلى ضعف عام في التنظيم قد يؤدي إلى تفككه، وإذ كانت دولة ربما يؤدي إلى وقوع تنازع بين أقران الصف القيادي الثاني فيحدث الانقسام والاقتتال، وإذا حدث ذلك فإن العدو سيُكفى مؤنة الحرب التي سيتولاها عنه من يفترض أنهم أعداؤه وسيحاربون أنفسهم حتى يتفانوا.
وقد يكون الاغتيال بهدف التمهيد لقيادة تعتنق أفكارًا يراد لها أن تسود، وما يمنع انتشارها هو وجود قائد أعلى يمتلك أفكارًا مختلفة أو لا يؤمن بالأفكار التي يعتنقها مساعدوه، لذلك يتخذ قرار الاغتيال لإفساح الطريق لهذه الأفكار من خلال تصدر معتنقيها المشهد.
وقد يكون الاغتيال بهدف كسر حلقة في سلسلة، وهذه الحلقة عادة ما تكون محورية وتشد بها عدة سلاسل، فإذا كسرت انفرط عقد السلاسل المتصلة بها، وإعادة ترتبيها وتجميعها لا بد من أن يستهلك وقت، وقد لا تعود هذه الحلقة بنفس قوة الحلقة السابقة، وهذا ما يعطي العدو فرصة قد تكون طويلة حتى تعود هذه الحلقة لقوة عملها السابق.
وقد يكون الاغتيال بهدف تغيب شخص مؤثر مثل مفكر أو كاتب أو إعلامي أو شاعر والهدف من الاغتيال يكون هنا بهدف إسكات صوت مزعج ليس إلَّا.
وقد يكون الاغتيال بهدف القضاء على شخص يتمتع بمواهب علمية نادرة وغير متوافرة بهدف تعطيل برنامج علمي معين، وعادة ما يؤثر هذا الاغتيال سير البرنامج العلمي لكن دون أن يعطله، خاصة إذا كان هذا البرنامج يحظى برعاية قوية من الدولة وتتوفر له كل الإمكانات المادية واللوجستية.
وهذا النوع الأخير من الاغتيالات هو الذي حدث مع فخزي زادة، ولذلك نعتقد أن الهدف من اغتيال زادة توجيه ضربة معنوية قد يكون لها بعض التأثير الفني على سير البرنامج النووي الإيراني لكن بكل تأكيد لن يعطله.
اغتيال فخري زادة أثار عدة أسئلة من أبرزها. هل إيران مخترقة لهذه الدرجة؟ وهل عجزت عن حماية شخص بهذه الأهمية؟ وكيف السبيل لمنع مثل هذه الاغتيالات مستقبلًا؟
أنا أعتقد أن المسألة ليست نقص تأمين لفخري زادة أو اختراق واسع النطاق لإيران، ولكن المسألة هي كما قيل "إن الاغتيال في النهاية هو قرار، فإذا اتخذ هذا القرار لم تعد الحراسة تقدم أو تؤخر".
وهذا القول صحيح إلى حد كبير بدليل أن استعراض عمليات الاغتيال لشخصيات عالمية يشير إلى أن المشكلة لم تكن في توفير الحماية، فلا أظن أن الرئيس الأمريكي كيندي حينما تم اغتياله كان لا يحظى بالحماية اللازمة، وأمريكا الدولة العظمى الأولى التي تمتلك أقوى أجهزة الأمن في العالم، وكذلك حينما اُغتيل الرئيس المصري السابق أنور السادات لم تكن تنقصه الحماية، وربما يتعرض شخص ما للمراقبة لفترة طويلة بهدف اغتياله ولكن تحول ظروف خارجة عن إرادة المنفذين من تحقيق اغتياله، وقد ينجو شخص من عدة محاولات اغتيال ثم تنجح في النهاية عملية الاغتيال، كل ذلك يشير إلى أن الاغتيال هو عملية لا يمكن وقفها أو منعها تمامًا، فلا يوجد نظام أمني لا ثغرة فيه، ولا يوجد إنسان محصن ضد الاغتيال، مهما بلغت قوة وشدة إجراءات الأمن حوله.
لكن الاغتيال لا يوقف نشاط الجانب "المعادي" بدليل أن "إسرائيل" اغتالت قادة كثر من المقاومة، ولكن المقاومة بقيت مستمرة وربما بوتيرة أشد، فلقد اغتالت "إسرائيل" أحمد ياسين والمقادمة والجعبري والشقاقي وأبو علي مصطفى وقبلهم أبو جهاد وأبو إياد ويحيى عياش وعماد مغنية والقائمة طويلة جدًّا، ولكن بقيت المقاومة مستمرة، لأنها فكرة وليست شخصًا، صحيح أن الأفكار وقوة تأثيرها في الأشخاص تزاد وتنحسر تبعًا لقوة تأثير حامليها، ولكنها تبقى جذوة مشتعلة، تزاد إذا كان حامل شعلتها ذا مواصفات خاصة، وقد تخبو قليلًا إذا حملها شخص أقل همة ونشاطًا، ولذلك تعلم "إسرائيل" جيدًا أن وسيلة الاغتيال لا تنهي الخصم ولكنها ربما تعوق تقدمه لفترة ثم ما يلبث أن يستمر من حيث انتهى.
لكن هل من سبل لمنع "إسرائيل" من ممارسته الاغتيالات؟ أعتقد أن هناك وسيلة فعالة جدًّا لذلك، ألا وهو العقاب الذي يمكن أن تناله "إسرائيل" ردًّا على كل عمليته اغتيال تقوم بها، بمعنى أخر هو رفع كلفة هذا الاغتيال عليها، الأمر الذي سيدفعها للتفكير ألف مرة قبل الإقدام عليه، حتى لو كانت العملية في غاية السهولة، وهنا يصبح تأمين الأشخاص ليس بالحماية الأمنية الشخصية فقط، ولكن بقوة الرد وتحقيق "الردع"، وهذا ما قد حققته المقاومة في غزة. فالرد الذي صاحب جريمة اغتيال الجعبري من إشعال حرب قصفت فيها تل أبيب أوقف عمليًّا سياسة الاغتيالات التي كانت تمارس بسلاسة تصل حد التسلية في فترة سابقة، وأذكر هنا كلمة لرئيس الموساد السابق آفي ديختر حينما قال عن تلك الفترة التي كانت تمارس "إسرائيل" فيها الاغتيال بكل سهولة ويسر: "كنا نقول أن لكل مخرب يومه ثم أصحبنا نقول إن لكل يوم مخربه"، بهذه الغطرسة كان يتحدث ديختر، لكن نظرية الردع التي صاغتها المقاومة جعلت هذه السياسة من الماضي، ولذلك يمكن أن تُردع "إسرائيل" عن ممارسة هذه السياسة إذا ما عوقبت بشدة عن كل عملية اغتيال تقوم بها.
ولذلك نظن أن سياسة العض على الجراح التي تنتهجها الجمهورية الإسلامية حتى لا تغرق نفسها في معارك جانبية تحرفها عن مسارها نحو الهدف الإستراتيجي، تحتاج إلى إعادة نظر، ذلك أن الصبر المبالغ فيه قد يكون ضرره استراتيجيًّا، وربما يؤثر في الهدف الإستراتيجي العام الذي تسعى الجمهورية الإسلامية للوصول إليه، ولذلك لا بد من أن يكون هناك وسائل حماية فعالة، تتجاوز توفير الأمن التقليدي للشخصيات المهمة، وذلك بتحقيق نظرية "الردع التكتيكي" الذي يمنع العدو من توجيه ضربات موجعة مثل اغتيال زادة، ويتحقق هذا الردع التكنيكي بأحداث ضرر مماثل أو أشد قوة للعدو من الضرر الذي ألحقه بإيران من اغتيال زادة، عندها سيفكر ألف مرة قبل أن يقدم على أي خطوة مشابهة.
ولا بأس أن تتعلم الجمهورية الإسلامية من المقاومة في غزة، "فالدب لا يأكل العسل خوفًا من لسع النحل".