كان غريبًا التصريح الذي صدر عن رئيس "دولة الاحتلال" ريفلين خلال تلقيه وسام الشرف الرئاسي من معهد واشنطن لسياسات الشرق الوسط والذي قال فيه: يمكننا التحدث عن دولتين لشعبين أو دولة واحدة لشعبين أو اتحاد فدرالي أو كونفدرالي، حديث ريفلين رغم أنه من الناحية القانونية يعد تصريحًا أو حديثًا صادر عن شخصية سياسية بلا صلاحيات، وفقًا للنظام السياسي الصهيوني الذي يجعل كل الصلاحيات بيد رئيس الوزراء، إلا أن صداه السياسي والإعلامي له أهمية كبيرة، لكونه صادرًا عن شخصية رسمية إسرائيلية رفيعة للغاية، يمينية التوجه إلى حد التطرف، وهذه هي المرة الأولى التي تصدر فيها مثل هذه التصريحات عن مثل هذا المستوى، تزامن هذا التصريح مع الموقف الشعبي والنقابي المصري العارم ضد الصورة الشهيرة لمحمد رمضان مع المغني الصهيون عومر، والذي أكد قطعًا أن الشعب المصري رغم كل ما تعرض له من حملات مركزة لاستبدال ذاكرته الوطنية المتشربة للعداء لـ"إسرائيل" بذاكرة جديدة تقوم على الصداقة مع العدو التاريخي قد فشلت، شدة الموقف الرافض لمجرد "صورة" للمثل مصري مع مغنٍّ إسرائيلي شكلت صدمة للاحتلال، الأمر الذي دفع الناطق باسم الخارجية الإسرائيلية ليظهر في فيديو "متهكم" ضد الشعب المصري، مخاطبًا إياه بلهجة مصرية "مكسرة" (أيه النوم في العسل ده)، الرابط بين الحدثين -تصريح ريفلين وصورة محمد رمضان- يكمن من وجهة نظري في رسوخ فكرة الرفض لوجود الكيان بعد كل هذه المدة لدى الشعوب العربية (رغم نشوة التطبيع المصطنعة مع بعض القبائل العربية) واقتناع قادة الكيان بهذا الرفض لوجودهم وعدم جدوى إنكار هذا الواقع، الأمر الذي أدى بريفلين أن يتحدث بما تحدث به مما يجعلنا نخلص إلى عدة نقاط.
أهمها:
أنه قد رسخ في أذهان قادة الاحتلال أنه لا يمكن لهم العيش في المنطقة دون موافقة الفلسطينيين أصحاب الأرض، وإلا فإن عيشهم سيبقى ضنكًا قائمًا على الشك والخوف والريبة طالما بقي الصراع قائمًا ومستمرًّا.
الأمر الآخر أن كلام ريفلين يؤكد أن فكرة القفز على حقوق الشعب الفلسطيني قد أصبحت من التاريخ، وكل ما يحاوله قادة الاحتلال الآن هو التقليل من كلفة الاعتراف بالشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة إلى حده الأدنى، وذلك من خلال طرح أفكار ومبادرات بين الحين والآخر، علها تمكنهم من العيش بسلام بعد أن انتهى حلم العيش في بلاد اللبن والعسل دون وجود الشعب الفلسطيني.
حديث ريفلين يدل كذلك على أن مقاومة الشعب الفلسطيني أزالت من أدمغة اليمين الصهيوني المتطرف الذي ينتمي إليه ريفلين فكرة الترانسفير التي صاحبت نشأة هذا الكيان المصطنع على الأرض الفلسطينية، ومارسها من خلال ما اقترفه خلال أكثر من سبعين عامًا من قتل وتشريد وإرهاب.
كذلك فإن حديث ريفلين عن حل الدولتين أو الدولة الواحدة لشعبين أو الاتحاد الفدرالي أو الكونفدرالي، حل محل فكرة الوطن البديل والدولة اليهودية النقية، التي كانت من المعتقدات الراسخة في أذهان القسم الأكبر من الصهاينة، والتي حاول نتنياهو بكل ما أوتي من قوة أن يجعلها حقيقة على الأرض في السنوات الأخيرة، وكان من أبرزها تشريع قانون الدولة اليهودية في الكنيست الصهيوني.
بعد مئة وثلاثة وعشرين عامًا على مؤتمر بازل، لم تعد الخرافات التي تأسست عليها الحركة الصهيونية تقنع قادة الكيان، ناهيك بجيل الشباب منهم الذي "انكفأ" عن هذه الأفكار التي تشربها الجيل الأول من المهاجرين اليهود على أرض فلسطين، فضلًا عن المهاجرين اليهود الجدد وغير المؤمنين بالفكرة الصهيونية أصلًا الذين قدموا إلى فلسطين من أجل الحصول على فرصة أفضل للحياة.
ولذلك عندما يتحدث ريفلين المتشرب للفكر الصهيوني بما تحدث به، فهذا أمر يدل على تبدل قناعات تحت ضغط كبير، أوجدته المقاومة العنيدة للشعب الفلسطيني ومن خلفه الشعوب العربية والإسلامية كافة، التي جعلت الاستمرار في هذا الفكر معاندة لحركة التاريخ تنذر بتفكك وزوال (الدولة اليهودية)، ولذلك يغير أمثال ريفلين معتقداتهم وأفكارهم.
أجل تغيير قناعات قادة الاحتلال الذين خاضوا حروب هذا الكيان تحت شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا وطن" له أهمية سياسية كبرى، حيث يعد بوضوح تراجعًا واضحًا لسطوة وغطرسة الفكر الصهيوني أمام فكرة الصمود والمقاومة التي تشبت بها شعبنا رغم مرور الزمن.